من أنا

صورتي
ابو وائل
" إذا خانتك المبادئ ، تذكر قيم الرجولة " قولة عظيمة لرجل عظيم...لا يكون الا عربيا!
عرض الملف الشخصي الكامل الخاص بي

للاتصال بالمحرر:

whamed6@gmail.com

هل تعتز بانتمائك الى امة العرب ؟

اذا كنت تعتز بانتمائك الى امة العرب..نقترح عليك خدمة بسيطة ، تطوعية ونبيلة..وهي ان تعرّف بمدونة صدى الايام عبر نشر رابطها في مواقعك والمواقع الاخرى ولفت النظر الى منشوراتها الهامة والحيوية..وان تجعلها حاضنة لمقالات المهتمين بشأن امتنا - عبر بريد المحرر-واننا شاكرين لك هذا الجهد.

فسحة مفيدة في صفحات صدى الايام وعبر ارشيفها







نصيحة

لاتنسى عزيزي المتصفح ان تؤدي واجباتك الدينية..فمدى العمر لايعلمه الا الله..وخير الناس من اتقى..قبّل راس والدك ووالدتك واطلب منهما الرضى والدعاء..وان كانا قد رحلا او احدهما..فاطلب لهما او لاحدهما الرحمة والمغفرة وحسن المآل..واجعل منهجك في الحياة الصدق في القول والاخلاص في العمل ونصرة الحق انّى كان

ملاحظة

لاتتعجل عزيزي الزائر..خذ وقتا إضافيّا وعد الى الأرشيف..فثمة المفيد والمثير الذي تحتاج الاطلاع عليه..ملفات هامة في الاسلام السياسي..في العقائد الدينية الفاسدة والشاذة..في السياسة العربية الرسمية..في مواضيع فكرية وفلسفية متنوعة..وثمة ايضا..صدى ايام الثورة العربية الكبرى




إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

لفت نظر

المقالات والابحاث والدراسات المنشورة لاتعبر بالضرورة عن وجهة نظر ادمن المدونة

سجل الزوار

 

حوار مع الفيلسوف فتحي المسكيني

المسكيني: دور الفيلسوف أن يصاحب الآلام الكبرى، لا أن يشرّع لها

أسئلة الهوية والحرية.. والزمان !

"علينا أن نقبل بوجود الفلسفة باعتبارها شريكًا تاريخيًّا وروحيًّا كبيرًا لثقافة العقل في مجتمعاتنا"، هكذا يؤكد المفكر التونسي فتحي المسكيني، لأنه "متى صار شبابنا يتفلسف من دون أيّ خجل أخلاقي أو عقدي، فإنّ هذا سيساهم في النهوض بفكرة الإنسان في ضمائرنا.. فالفلسفة يمكن أن تخلق جيلاً جديدًا من الأحرار، وهذا يتطلّب تمارين مريرة ومؤلمة ومزعجة في تدبير الذاكرة، وفي تدبير الهوية. وذلك يعني استعدادًا راسخًا للانتماء الحرّ إلى مصادر أنفسنا، من دون المرور بوصاية أحد".
الدكتور فتحي المسكيني
الدكتور فتحي المسكيني
لا يفتأ المفكر التونسي فتحي المسكيني أن يوجِّه سهام نقد قلمه اللاذع نحو الهوية التي صنعتها الدولة القومية الحديثة، منخرطًا في رحلة عميقة لا يكل صاحبها عن التأمل والتساؤل والبحث عن تلك الذات المتجردة من الرواسب الهووية الموروثة المتراكمة!.
أستاذ الفلسفة بجامعة تونس يقرر بوضوح قاطع كما في كتابه (الكوجيطو المجروح.. أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة) أن الهوية “اختراع ثقافي خطير، طورته كل الثقافات وبخاصة تلك التي لم تعد تمتلك كنزًا خلفيًّا أو مخزونًا احتياطيًّا لنفسها غير حراسة الانتماء بواسطة الذاكرة الممنوعة من التفكير”. ينادي ويدعو دائمًا إلى أن تكون (الحرية أولاً) “حرية الذات، وحقها الحيوي الكوني في الانتماء الجذري للنوع الإنساني، بعيدًا عن أسئلة الهوية المسبقة التي تلاحقها وتكبلها، وتشكلها كما تشاء”. ولذلك حيا في مقدمة كتابه (الهوية والحرية .. نحو أنوار جديدة) ذلك الشاب الطلائعي الذي قال يومًا ما:”نعم.. الحرية قبل الهوية”.
يقول فتحي المسكيني عنه نفسه بأنه “جزء من جيل حاول أن يغيّر قبلة الفلسفة في تونس” وجد نفسه منذ العام 1991 مدفوعًا إلى قراءة هيدغر، ثم الاشتغال عليه في رسالة دكتوراه كان موضوعها يرتكز على طريقة هيدغر في اعتماد مسألة الزمان أفقًا تأويليًّا لطرح مسألة المعقولية في التقليد الغربي.
صدرت له مؤلفات فلسفية، كـ: (فلسفة النوابت)، و(الهوية، والزمان)، و (نقد العقل التأويلي)، وأخيرًا صدر له كتاب عن الثورات العربية في (سيرة غير ذاتية)، كما صدرت له عدة ترجمات فلسفية من أبرزها، (الكينونة والزمان) للفيلسوف الألماني “مارتن هيدغر”، الذي فاز أخيرًا بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن فرع الترجمة، كما صدرت له عن دار جداول أيضاً، الترجمة العربية الأولى لكتاب الفيلسوف “إيمانويل كانط” (الدين في حدود العقل).
مجلة (المجلة) حاورت فتحي المسكيني، وساءلته عن أهم أفكاره ورؤاه، عن الثورات العربية وتداعياتها، وعن الذات والهوية، ومهمة الفلسفة وأسئلتها، وعن العلاقة بالماضي والتراث، فكان هذا الحوار…

تونس .. دستور جديد، ومرحلة جديدة

بعد مخاض عسير أقر المجلس الوطني التأسيسي الدستور الجديد لتونس، هل يمكننا القول بأن الثورة قد عادت إلى مسارها الصحيح؟
قبل الحكم على مسار الثورة علينا بادئ ذي بدء أن نبتهج بمساحة الأمل التي تمّ بناؤها في أفق شعبنا الجديد. نحن بنينا مساحة أمل أو منطقة رجاء، على الرغم من أنّه لا أحد يمتلك ضمانات مسبقة عمّا يمكن أن تسفر عنه.
طبعًا، كلّما أقدم شعبٌ على كتابة دستور لذاته الجديدة فهو خبر سارّ. إنّه بذلك قد أعطى شكلاً لصيروته، وخرج من مرحلة الغموض الخطيرة، حيث يمكن لأيّ كاتب سيّئ أن يفرض علينا قصّة لم يعشها أحد، ورغم ذلك نحن مطالبون بالانتماء إليها بلا رجعة.
ولكن علينا أن نسأل عندئذ: هل كان للثورة “مسارها الصحيح” المتفق عليه من قبل؟ – لا يبدو لي أنّنا عدنا إلى أيّ منهاج مُعدّ سلفا للثورة. ما وقع وقع.. ونحن أمام ما سمّاه هيدغر ذات مرة ّ “واقعة” الكينونة الخاصة بنا. نحن لا نوجد كما نريد، بل “نقع” أي نحدث وفقًا لشروط تاريخية لا نختارها وربما هي التي اختارتنا بقطع النظر عن كل شواغلنا الهووية الرسمية أو المستقرة. – إلاّ أنّه يمكننا المجازفة، وهي هنا مجازفة مأمولة- بأن نقول: إنّ كتابة دستور جديد في أفق أيّ شعب من الشعوب العربية الحالية هو حدث روحي متميّز جدّا، مع أنّه لا أحد يمتلك طبيعة النتائج السياسية أو حتى الأخلاقية التي ستنجرّ عن ذلك. نعم، كتبنا دستورًا جديدًا، ولكن ما علاقة ذلك بالثورة؟ “من” ثاروا ربّما لم يصلهم نبأ الدستور بعد. أو هو لم يشغلهم إلاّ عرضًا. وبعبارة قلقة: إنّ الذين كتبوا الدستور هم “النخبة” التي لم تشارك في الثورة، لكنّها وجدت نفسها ملزمة أو محكومًا عليها (أخلاقيًّا) بأن تحاول ترجمة فكرة الثورة التي حرّكت الشعوب سنة 2010 -2011 إلى واقع دستوري أو “شرعي” مناسب أو منصف أو لائق بالشهداء من أجلها. ولكن هل أنّ ذلك كاف لإعادة الثورة إلى “مسارها الصحيح” ؟ ثمّة أمل في دولة مدنية ديمقراطية تمّ تحويله إلى خطاب دستوري، والآن علينا أن ننتظر تحويله إلى واقع مواطنة ونموذج عيش وسيرة يومية للحرية.
وعلينا أن نذكّر بأنّ الشباب لم يثر من أجل نصّ أو أثر أدبي، يبدو أنّه سيّئ التحرير. وهو يتساءل الآن: “من” كتب الدستور ؟ هل تمّت استشارة الفلاسفة والشعراء والفنانين؟ وعلى كل حال الثورة لا يمكن أن تُختَزل في كتابة دستور كأنّنا بلد بدائي لم يعرف من قبل ما معنى مدوّنة قانونية.
كيف ترى ملامح المرحلة القادمة لتونس بعد إقرار الدستور؟
في الواقع، لا تغيّر الشعوب من ملامحها باليسر الذي يتصوّره “المؤرّخون”، نعني كل الذين تعوّدوا تحويل الوجود التاريخي إلى خبر أو إلى أحداث يمكن سردها. وعلى كلّ، نحن لا نملك اليوم صيغة جاهزة عن “المرحلة القادمة” سواء لتونس أو للبلدان العربية الأخرى. ثمّة توجّس متبادل بين الشعوب وحكّامها، من أن يكون الحديث عن الدستور “حديث خرافة يا أمّ عمرو” كما قال المعري ذات قصيد. نحن نعلم منذ مدة أنّ كتابة دستور “جديد” أو “جيد” لم يكن أبدًا مشكلاً حاسمًا في وجود أو تسيير الدولة الحديثة لدينا. ثمّة مسافة مزعجة ولكن عميقة بين دستور جيّد ودولة جيّدة، نعني بين تصوّر الحكم وعمليّة الحكم. والحاكم العربي ظلّ إلى حدّ الآن، سواء بالثورة أو بغيرها، بالانتخاب أو بالتوريث، بالتداول “السلمي” على السلطة أو بالانقلاب، ظلّ حاكمًا هوويًّا. نعني حاكمًا أداتيًّا وجاهزًا من حيث ذهنية الحكم ومنطقه، قبل أيّ تعاقد دستوري أو قانوني مع الشعوب الذي يحكمه. ولذلك فإنّ حدث “إقرار الدستور” على جلالته وخطورته هو لا يفتح على أيّ تونس جديدة، بل فقط على وعود سياسية لا أحد يملك ضمانة كافية لتحقيقها. وأفضل ما يجدر بنا هو أن نعمل على تطوير مفهوم جديد للمستقبل، لا يمرّ بالضرورة بأحلام الحاكم الهووي حولنا أو حول سلطته علينا. ربما لأوّل مرة نحن نشعر بأنّ الدولة الحديثة مشروع هشّ ومؤقّت في أفقنا. وعلينا أن نتوقّف قليلاً عند الأخطار غير المسبوقة التي يمكن أن تطرأ عليها في أي لحظة. ومن ثمّ فإنّ المرحلة القادمة لن تكون من طبيعة هووية، أي أنّها لن تنفّذ أيّ برنامج عقدي أو مذهبي أو طائفي جاهز. بل فقط، من طبيعة حيويّة، أي مرحلة تدريب المواطن على السكن الكريم في وطنه حتى يكفّ عن الشعور بأنّ الموت في بلد الهجرة أخفّ حملاً على النفس من الحياة في بلاده. لا يمكننا أن ننتظر من دول المستقبل غير أشكال محتملة من الحياة، لا غير.
عهد الفرديات والشخصيات الكبرى (الملهمة، القائدة، المسدّدة،…) قد ولّى. ولا ينبغي أن نسمح لأحد بأن يرى المستقبل بدلاً عنّا
.


ثمّة مسافة مزعجة ولكن عميقة بين دستور جيّد ودولة جيّدة
هل تتفق بأن حركة النهضة قد استوعبت درس مصر فعلاً.. هل سيدوم هذا الاستيعاب طويلاً؟
وما هو “درس مصر”؟ نعم، هناك إرادة قوية لتصحيح مسار الثورة وإعادتها إلى الجماهير التي قامت بها أو حلمت بها. ولكن إلى أيّ مدى يجوز لنا أن نعوّل على الجيوش كي تساعد الشعوب على استعادة حق الناس في الحياة أو حقهم في الحرية ؟ – كانت ثورة مدنيّة رائعة، على غرار الثورة التونسية. قام بها غاضبون، شباب عاطل أو معطّل عن العمل، متعلّم ولكن بلا أفق نجاح شخصي، علاوة على ضغوط عولمة ثقافية، تفتح الأبواب باستمرار أمام تدمير البنى المعيارية التقليدية للذات والجسد والهوية والجندر والجنس وطرق المواطنة وسير الحياة الخاصة،… ثمّ صعد الإسلاميون إلى سدّة الحكم، وعادوا فجأة إلى الواجهة بواسطة انتخابات الهوية، التي لا تملك من الوجاهة المدنية للفوز بآمال المواطن الحديث لدينا سوى وعود الجماعة ورهبة العدد. طبعًا، كان فوزًا حقيقيًّا، نعني نجح في استغلال آليات النجاعة السياسية الحديثة، في خليط مثير بين الدعوة الدينية والدعاية الحديثة. ولكنّ الشعوب شعرت في شطر كبير منها، أنّها خُدعت، وأنّ ما كانت تنتظره من الثورة قد لبس لبوسًا آخر. طبعًا، ربما أخطأ الإسلاميون في الشروع الفوري في أسلمة المجتمع، وعندما وجدوا أنفسهم أمام امتحان الحكم، لم يتخلّوا عن التقنيات الدعوية التي تربّوا عليها، بما في ذلك تقنية أخونة الموت، واستعماله كأداة ضغط قصوى على المنافسين السياسيين. لكنّ لبّ المشكل -في تقديري- ليس الدين أو الاستعمال العمومي للدين، عند الوصول إلى السلطة. بل أخطر من ذلك هو تصوّر الدولة. هل الدولة هي غاية في حدّ ذاتها، نعني شكل الحياة المناسب للشعوب أم هي مجرّد جهاز دنيوي في خدمة دعوة ميتا -تاريخية وميتا- أخلاقية، على الشعوب أن تستجيب إليها، وإلاّ اتّهمت بالخروج عن مطلب الهوية، وتعريض شرط الانتماء إلى التلف التاريخي، وفي آخر المطاف المروق عن الدين والسقوط في أحابيل الإلحاد السياسي الحديث.
لكن بشكل أكثر تحديداً.. ماهو الفرق الذي تراه بين حركة النهضة التونسية، وجماعة الإخوان المصرية؟
ربّما يكمن الفرق بين حركة النهضة التونسية وجماعة الإخوان المصرية في هذا الفاصل الرفيع بين “الحركة” السياسية و”الجماعة” الدينية. يبدو أنّ الإسلاميين في تونس نشطاء حركيون تتلمذوا في الأغلب الأعمّ، بشكل صريح أحيانًا، وعلى أنحاء خجولة أحيانًا أخرى، على المدرسة السياسية التونسية بكلّ أطوارها الثرية: من حركة إصلاح وعلماء زيتونيين ومثقّفين علمانيين، وحكم بورقيبي، وتجارب اليسار وحركة طلابية وأساتذة علوم وإنسانيات من طراز “غربي” رفيع،.. وبهذه المواصفات التاريخية هم مختلفون عن “الإخوان”، وإن كان الشبه الدعوي الإسلاموي قد يسهّل نقدهم السياسي والتخلص الأخلاقي منهم كشركاء في مرحلتي ما قبل الثورة (مقاومة الدكتاتورية)، أو ما بعد الثورة (الدسترة الجديدة للدولة المدنية وتجربة الحكم ما بعد الدكتاتوري). وهكذا إذا كان ثمّة درس مصري في هذا الوقت (ما بعد تجربة الحكم) فهو فهم النهضويين بأنّهم أقرب إلى الليبراليين منهم إلى أيّ حزب ديني جهادي. وبالتالي عليهم أن يعيدوا النظر في طريقة الحكم والانتقال من طور التحوّز على آلة الحكم إلى طور المشاركة فيه بدون خسائر تاريخية. هل سيدوم هذا الموقف؟ – نعم. هم ليس لهم أيّ خيار آخر، إذا ما أرادوا أن يكون لهم مستقبل سياسي في تونس.
المشكل مع الإسلاميين في كل مكان هو كونهم يبحثون عن “مستقبل” في بلدانهم. والحال أنّ هذه الهشاشة التاريخية لا تسمح لهم بتأسيس أيّ شيء طويل الأمد. والعكس هو ما ينبغي القيام به: أن يبحثوا عن مستقبل لبلدانهم بكل ما يمكن استلهامه من تجارب الإسلام العريقة. عندئذ يؤسسون.

الحرية أم الهوية؟ !

قلت في كتابك “الهوية والحرية” بأن الحرية قيمة خطرة جدًا إذا لم تتحول إلى فن للمشترك، برأيك بعد ثلاث سنوات من مرحلة الربيع العربي، هل فشل الثائرون أو “بعض المنتصرين” في استثمار لحظة وقيمة الحرية؟
لا يبدو لي أنّ “الثائرين” قد فشلوا، بل العكس هو الذي وقع: إنّ النخب السياسية هي التي فشلت في استيعاب ما وقع من “ثورة”، وعلينا أن نقول إنّهم لم يكونوا جاهزين لواقعة الثورة، بل فاجأتهم كما فاجأت الحاكم الهووي، الذي كان يغطّ في السبات الدكتاتوري الطويل الأمد. فمن قام بالثورة لم يكن في الغالب مسيّسًا، نعني محترفًا. بل كان جزءًا من كثرة من الذوات الحرة التي تجرّأت على أن تذهب إلى أبعد من الخطّ الهووي للدولة الدكتاتورية: خطّ الفقر، خطّ السكوت، خطّ التعبير، خطّ العقل، خطّ التغيير،.. وما دفع الشباب الثائر إلى التمرّد على خطّ الحكم السائد لم يكن دافعًا سياسيًّا بالضرورة، نعني هو لم يثر استجابة لدعوة دينية أو نداء حزبي، بل ثار بدوافع حيوية: إنّ شكل الحياة تحت الحاكم الدكتاتوري صار أمرًا لا يُطاق، وينبغي التمرّد عليه. الحرية قيمة حيوية، لا علاقة لها بالضرورة بأيّ حسّ هووي، مهما كان نبيلاً.
ولذلك، نعم، هناك ارتباك في استثمار لحظة الحرية، فهي لحظة وجديّة غير مسبوقة، شعر بها الناس على حين غرة، بعد أن رأوا أنّ أبناءهم من الشباب الحرّ، النضر، المستبشر بذاته الجديدة، الحديثة، الخاصة، الشخصية جدّا،…قد نزل إلى الشوارع وتجرّأ على شتم الحاكم أو السخرية منه، أو مطالبته بالرحيل. ثمّة براءة فظيعة، براءة وجودية، رافقت تجربة الذات إبّان الثورة. براءة الشبان الذين ينادون بإسقاط النظام دون أي تصوّر واضح لمعنى سقوط الدولة، أو كتابة دستور جديد، أو تغيير فنّ الحكم. وإذا كان ثمّة “فشل” فهو ليس فشل الثائرين، فعلينا الاعتراف بأنّ الثائرين قد انتصروا. إنّ قيمة الحرية قد صارت جزءًا من التاريخ الحديث للمواطنة لدينا. ولذلك فإنّ الذين فشلوا هم أعضاء النخب السياسية التي ادّعت الأبوّة على الثورة، وحوّلتها إلى مهرجان خطابي للأحزاب أو للحكومات الإجرائية المحايدة جدًّا. ومن سخرية الأقدار أنّ الشعوب التي ثارت صارت تطالب بتشكيل حكومات “مستقلة” و”محايدة” لتحقيق أهداف الثورة. ولكن تطالب ذلك ممّن؟- بالضبط، من نخب سياسية شعرت الشعوب أنّها منشغلة بأهداف أخرى للثورة، غير الأهداف التي نادى بها الشباب الثائر، من دون أن يكون جزءًا من أيّ جهاز ثوري سابق.
نحن لم نتمرّن على التفكير معًا إلاّ منذ وقت قريب. وإذا كان درس الثورة ينحصر في أنّنا بدأنا نعرف بعضنا لأوّل مرة، بعد انقشاع سحابة الدولة الدكتاتورية، فهذا يُعدّ هديّة أخلاقية رائعة من الشباب الذي تمرّد.
حييت شهداء الثورات العربية قائلاً :”لشهداء الكرامة الذين قالوا يوماً ما: نعم الحرية قبل الهوية”، هل قالوا الحرية أولاً بالفعل، أم أنهم فقط أجلوا سؤال الهوية؟
إنّ الثائر الذي قال : “نعم الحرية قبل الهوية”، لا يضرب إحداهما بالأخرى، أو يثبت الأولى كي يبطل الثانية، بل فقط هو يعدّل وتر الحياة في قلبه. إذْ تراهن الدول غالبًا على إقناع المحكومين بأنّ ثمّة شيئًا متعاليًا على حيواتهم الخاصة أو الحاضرة أو الدنيوية، وأنّ هذا التعالي هو مصدر كل شرعية عميقة لتبرير وجودهم في ظل الدولة. فهم ليس لهم من “هوية” ينتمون إليها أن يحتموا بدلالتها إلاّ بقدر ما يطيعون الحاكم باسم شيء يتعالى على وجودهم تعاليًا نهائيًّا وكلّيًّا. كانت الدولة القومية تستمدّ شرعيتها من أن “لا شيء يعلو على صوت المعركة”.
مع من ؟- مع عدوّ خارجي، لا نهائيّ، لا مجال لأيّ تصالح تواصلي معه. ولذلك كانت دولة هووية بامتياز. لا هوية لأيّ محكوم، أي لا مواطنة لأيّ مواطن، إلاّ باسم منطق الدولة التي تحكمه وفي حدود تقديمها لنفسها. لقد بدا الشخص الفردي المعاصر في أفقنا وصفة باهتة من مجرّد “مواطن” دولة ما (بكل ما يعنيه ذلك من التزامات عقدية وقومية وقانونية)، ولم يصبح بعدُ في أيّ مكان، ولا حتى ثورات “الربيع العربي”، ذاتًا، أي فردًا حرًّا قادرًا على المواطنة النشطة. “الحرية قبل الهوية” تعني الشخص قبل المواطن، أو الذات قبل المحكوم.
أخطأ الإسلاميون في الشروع الفوري في أسلمة المجتمع، وعندما وجدوا أنفسهم أمام امتحان الحكم، لم يتخلّوا عن التقنيات الدعوية التي تربّوا عليها، بما في ذلك تقنية أخونة الموت
طبعًا، يظنّ البعض أنّ مجرّد تغيير التسمية من معجم “الرعيّة” إلى معجم “المواطنة” هو خطوة عملاقة لتغيير ذهنية الحكم في البلاد العربية، لكنّ خيبة الأمل من ذلك كبيرة: فمن جرّب الخضوع (وليس الطاعة) للحكم الدكتاتوري سوف يكتشف من دون جهد يُذكر أنّ الدولة “الحديثة” لا تفرّق كثيرًا بين المعاجم السلطوية، ومن ثمّ أنّ تبرير الحكم ليس جزءًا من منطق الحكم. وعليه فإنّ طبيعة الحكم لا تتغيّر بمجرّد تغيير الخطاب.
يمكن أن نقترح الفصل بين معارك الحرية ومعارك الهوية. ولكنّ هذا الفصل لا يغيّر من خطورة المشهد الذي يخلّفه الشهداء؛ أي الذين تقتلهم آلة الدولة بدون أيّ عداوة شخصية معهم سوى أنّهم يضعون وجود الدولة الحديثة موضع تهديد جذري. على الدولة نفسها أن تقتنع بأنّ التدخّل في هوية الناس لأسباب سياسية ليس عملية مضمونة العواقب دائمًا. إذ يمكن أن يحدث تصادم بين هوية المحكوم وبين هوية الحاكم. ولذلك فمن يثور ضدّ الحاكم الهووي، الذي يستمدّ شرعية حكمه من فرض هوية جاهزة على المحكومين، هو لا يثور ضدّ فكرة الهوية بإطلاق، بل ضدّ نمط سائد ومهيمن وقاهر من “التهويّ” أو من “تهوية” الناس في قالب هووي معدّ سلفًا من طرف أجهزة الدولة. ولا يهمّ إن كانت تلك الدولة دينية أو مدنية أو عسكرية. كلّ ما يُفرض على حرية الناس في اختيار شكل الحياة القابلة للحياة بأنفسهم هو هووي، أي قائم على استعمال أداتي وخارجي وقسري لحياتهم الخاصة باعتبارها مجرّد جهاز عمومي للدولة. ولا ضرّ إن سمّيت ذلك عقيدة أو قومية أو شخصية تاريخية أو شعبًا أو حزبًا أو قبيلة أو عائلة حاكمة أو مجلسًا عسكريًّا…ولذلك حين يقول أحدهم :”الحرية قبل الهوية” هو لا يؤجّل سؤال الهوية بل يريد إعادة طرحه على نحو مغاير. إنّه يريد رأسًا أن يصبح مسئولاً عن نفسه، عن طريقة تذوّته بين الذوات الحرة، التي تؤثّث العالم المعيش المعاصر. نعم، إنّ الحرية هي “أوّلاً بالفعل”، وليس مجازًا. لكنّ ذلك ليس ضدّ الهوية بالضرورة. بل يمكن أن يكون، على العكس ممّا نتوقع، شرطًا أخلاقيًّا وروحيًّا فذًّا لاختراع الانتماء والدخول في تملّك حيّ لمصادر أنفسنا العميقة.
في ذات السؤال، ربما ناقشت هذه القضية كثيرًا في كتاباتك، لكن كيف يمكن أن أرفع شعار الحرية مجردًا مفصولاً من “هوية ما” ، ألا ترى بأن ذلك سيقود إلى أمرين إما شعار هلامي لفظي لا معنى له، أو مجرد أداة لحشد سياسي يكمن الشيطان في تفاصيلها التي ستعلن لاحقًا؟
لا وجود لحرية بلا هوية. لكنّ ما نسمّيه “هوية” يمكن أن يكون مدعاة لخلط كبير أو ريبة لا شفاء منها. الهوية كلمة جدُّ نبيلة، استعملها المترجمون العرب القدامى في مقابل كلمة “الكينونة” عند اليونان. “هو” أي “موجود”. ولا حرية لكائن لا وجود له. وابن عربي يطلق الهوية على “الحقيقة في عالم الغيب”. لكنّ ما ينبغي أن نحتفظ به من معنى أيّ هوية هو كونها هي “ذاتها” وليست شيئًا “آخر”. وبالتالي هي مختلفة عن مجرّد “الأنانة” أي عن مجرد “قولنا أنا” حسب تعبير ابن عربي. من يقول أنا لا يقول بالضرورة شيئًا عن هويته. بل فقد هو يزعم أنّه يملك نفسه أو يختص بها. وهناك معركة كبيرة ينبغي أن يخوضها من أجل الانتماء الأصيل إلى ذات نفسه. الهوية إذن معركة خاصة، شخصية وعميقة، وليست أرشيفًا للتوريث، قد تعمد جهة ما إلى فرضه على الناس وممارسة سلطة شرعية باسمه عليهم. وهنا نقرّ بأنّنا لا نتحرّر إلاّ داخل وفي ضوء تراث هووي عميق هو الذي يشكّل ما سمّاه الفيلسوف الكندي المعاصر -تشارلز تايلور- “مصادر النفس”. بل كل لحظة أو قيمة حرية هي تُقاس بمدى تجذّرها داخل جملة معقودة من مصادر الذات.


“التطرف الديني” ليس مفصولاً عن طبيعة العلاقة الحديثة التي تبنيها الدولة مع الأفراد
لكنّ ذلك لا يشرّع لأيّ سيطرة هووية على أحد. بل ثمّة مفارقة هنا: إذ كيف يصبح ما يعتبره أيّ فرد هويته العميقة أو الخاصة، كيف يصبح وسيلة هووية لإخضاع ذاته إلى مرجعية أو سلطة هووية خارجة عنه؟ هذا هو الخلط الهووي الأخطر الذي تستثره الأجهزة الهووية بعامة (أكانت دولة أو جماعة أو مؤسسة أو طائفة أو قبيلة أو حزبًا أو جيشًا،…) لتحويل وجود الأفراد إلى أعداد سياسية أو قانونية قابلة للاستهلاك الإجرائي للحكم.
نعم، يمكن أن تكون الحرية “شعارًا لفظيًّا هلاميًّا بلا معنى”. ولكن في فم الذين لم يستكملوا بعدُ أيّ تحويل ذاتي لهويتهم. علينا أن نفرّق بين هوية جاهزة موروثة ورسمية، وبين هوية ناجمة عن عمل عميق على الذات لتطويرها. وبالتالي نحن لن نتحرّر أبدًا ما دمنا نعوّل على هويات جاهزة لأنفسنا، ولم نشارك في أيّ لحظة في تشكيل وتيرتها. كذلك، يمكن للحرية أن تكون “مجرد أداة لحشد سياسي يكمن الشيطان في تفاصيلها التي ستعلن لاحقا “. ولكن في يد الذين لم يثوروا أصلاً من أجل حريتهم، بل استولوا على واقعة الحرية وسرقوها من قلوب أصحابها، وحوّلوها سريعًا إلى أداة هووية تحت الطلب. وهو ما قامت به الحركات الإسلاموية إزاء الثورات العربية الراهنة.
قلت بأن العلمانيين يستخدمون الحرية ضد الهوية، والسلفيين يستخدمون الهوية ضد الحرية، في ظل وضع مريب مسؤولة عنه “الدولة الحديثة” .. إذًا ما الموقف الذي تتخذه في هذه المعادلة المتداخلة ما بين شرائح المجتمع والدولة؟
ليس ثمّة وصفة جاهزة للحكم بين الحرية والهوية. وعلينا أن نكفّ عن التفكير الماهوي الذي لا يطمئن إلاّ إلى إمّيات قطعية مريحة. “إمّا” كذا و”إمّا” كذا. ومواصلة النقاش على أساس الفرقة الناجية والحجة الدامغة والرأي اليقين…هي جزء لا يتجزّأ من معجم الاستبداد الذي لا يفكّر إلاّ بناءً على مفهومات الصفوية والولاء المطلق، والزعامة الراشدة، وتهم التخوين والعمالة والمؤامرة… إنّ التفكير في هذه المسائل الشائكة هو أقرب إلى تفاوض عسير مع المستحيل، حتى يصبح الفهم المشترك ممكنًا ومستساغًا ومطلوبًا لذاته. قلنا إنّ قيمة الحرية لا معنى لها إذا هي لم تنجح في التحوّل إلى فنّ للمشترك. هذا هو بيت القصيد: نحن لا نشعر أنّ الفرقاء الهوويين والعلمانيين مستعدّون كفاية لتبادل الحرية، أو لتبادل الهوية بناءً على آليات اعتراف ديمقراطية. على الجميع أن يقتنع، وهذا بحدّ ذاته صعب، ويتطلب دربة أو مراجعة أخلاقية خاصة، أنّه “لا أحد”، أنّه “فلان” حديث، وليس ممثّلاً شرعيًّا ووحيدًا لجهاز انتماء متعال ولا نهائي. وبالتالي أنّ الحقيقة هي مجرّد ادعاء صلاحية من حق أيّ طرف أن يرفعه، ولكن ليس من حقه أن يحتكره على أحد. ذلك يعني أنّ الدين مثلاً ملكًا للإسلاميين، كما أنّ الحداثة ليست حكرًا على العلمانيين. وسبب التداخل هو نمط الدولة الحديثة نفسها، وليس خطأ أي طرف على حدة. فمن الخطأ أو الغرور أن يقدّم الطرفان العلماني والإسلامي نفسيهما وكأنّهما اللاعبان الأساسيان أو الوحيدان على ركح النقاش الحاد حول الحرية والهوية. فهما يغفلان أمرًا حاسمًا ألا وهو أنّ الذي يدير النقاش ويتحكّم فيه ويغذّيه ويستثمره هو منطق الدولة الحديثة، وليس الدين أو العلمانية.
إذن أنت تلقي باللائمة والمسؤولية على “طبيعة” الدولة الحديثة؟
نعم، المشكل هو طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة. وليست الثورات الراهنة غير إعادة ترتيب واسعة النطاق لحريات المجتمع المدني بإزاء الدولة. وبالتالي فإنّ بروز التوجّسات الهووية هو نتيجة، وليس سببًا للثورة. لقد تمّ ضرب من الاستفزاز الهووي لقيمة الحرية من أجل الحدّ من الخسائر التاريخية التي ستنتج عن الثورة، حين تتعدّى إسقاط الأنظمة إلى خلق نماذج جديدة للعيش في أفق ذواتنا المعاصرة.
وعلى كلّ ليس هناك موقف جاهز إزاء المستقبل. نحن نعمل منذ مدة على ضرب من اللاّمسمّى. ونحن إلى حدّ الآن لسانٌ سيّئ حول أنفسنا.
هناك ارتباك في استثمار لحظة الحرية، فهي لحظة وجديّة غير مسبوقة، شعر بها الناس على حين غرة.. فثمّة براءة فظيعة، براءة وجودية، رافقت تجربة الذات إبّان الثورة
بعد الثورة، أخذ الإسلاميون ينصبون قِدرَ الهوية في كل مكان، وطفقوا يستخدمون الذخيرة الهووية للجموع الفقيرة ضدّ من؟ – ضدّ “العلمانيين” ومن هم هؤلاء ؟ – إنّه الزميل في الجامعة، أو في العمل، أو في الاختصاص، وفي بعض الأحيان صديق العمر أو الأخ أو الأخت أو الأم أو الأب.. من المسئول عن هذا الانفلات الهووي في فضاءات هشّة ومؤقّتة جدّا من النقاش العمومي حول ما “وقع” ولا أحد يملك وصفة سعيدة عنه؟ كيف أصبحنا نفرّق بين ذواتنا الحديثة المتصدّعة أصلاً، بهذا اليسر المريب؟ وكيف يا ترى نقيس المسافة بين هويتين؟ هل يمكن أن نقيس مساحة العزلة داخل نفس الهوية؟ لقد تحوّل التفاوض على الهوية إلى برنامج أخلاقي للذات. وهذا عارض على هشاشة وجودنا المعاصر. فهل العلاقة الشخصية مثلاً علاقة هووية أم لا؟ أين يقف الشخص وأين تبدأ الهوية ؟ لقد نصبوا حدودًا هووية بين أجساد لم يفرّق بينها السجن ولا رصاص الشوارع الدكتاتورية، ثمّ من يحقّ له أن يراقب صيرورة الهوية لدينا؟ وإلى أيّ حدّ يمكننا التعامل مع أنفسنا بوصفنا كائنات مصنّفة بلا رجعة؟ وهذا الشذوذ الهووي أخطر ما فيه هو أنّه سريعًا ما يقنع الهوية بأن تعيش من جروحها، وفجأة تتحوّل مهمّة الحياة الحرّة إلى نافلة حديثة.
ثمّة تبادل هووي يقع في كل المجتمعات التي بلغت شوطًا محمودًا من الصحّة الروحية. ولقد نجح الإسلام الكلاسيكي في بناء هوية غير عرقية وغير إقصائية، لكنّ ما نفعله بواسطة الإسلام السياسي المتشدّد يمكن أن يجرّدنا آخر الأمر من ذلك المكسب التاريخي الكوني البعيد اليوم. ومشكل الهوية يبدو أنّه لا ينحصر لدينا في نزاع الاعتراف، كما هو الحال مع الهويات الإثنية أو الثقافية الغربية، بل في نزاع محموم على السلطة.
يؤكد العديد من العلمانيين العرب أن الديمقراطية إذا لم تقم على أسس ليبرالية فإنها سوف تناقض نفسها، وتؤدي إلى نتائج ديكتاتورية، وثيوقراطية، أولاً ما رأيك في هذه النظرية (أن الديمقراطية يجب أن تمارس وفق القيم الليبرالية الحديثة)، ثم من ناحية أخرى ألا ترى بأن “العلماني” هنا قد استعان بـ”هوية” ليحجم بها إطار “الحرية”، عكس ما ذكرت!
ما يقوله العلمانيون هو جزء من معركة الحرية، وليس كل المعركة. ويندر أن تجد بيننا اليوم من هو مستعدّ لمتابعة فكرة الثورة أو فكرة الحرية إلى حدّ اعتناق فلسفة الجندر مثلاً، والدفاع عن زواج المثليين أو تغيير الجنس، الخ. وعلاوة على ذلك ينبغي التمييز بين العلمانية والليبرالية. ومنذ عهد قريب نشر “تايلور” كتابًا ضخمًا تحت عنوان مثير هو “عصر علماني”. حيث يميّز بين ثلاثة معان من العلمانية: (1) معنى أن تكون الفضاءات العمومية “مفرغة من الله” أو من الدين؛ و(2) فصل الكنيسة والدولة؛ و(3) أن نعيش في عصر علماني يفرض شروطًا أو ظروفًا جديدة للإيمان. هذه المعاني الثلاثة ربما تشير إلى أجيال مختلفة من فكرة الديمقراطية. لكنّها بالتأكيد لا تفرض علينا أن نقيمها حصرًا على أسس ليبرالية. ثمّ إنّه ينبغي التفريق بين الليبرالية الكلاسيكية (لوك، مل)، وبين النقاشات الجديدة (الجماعوية والجمهورانية) مع الليبرالية.
القصد هو أنّ “أسس اللبرالية الحديثة” هي عبارة عامة، ويمكن أن تؤدّي إلى تخصيصات متباينة. وفي تقديرنا أنّ الحلّ العلماني ليس بالضرورة ليبراليًّا. بقي أن نشير إلى أنّ لبّ المشكل ليس في تأسيس أو عدم تأسيس الديمقراطية على اللبرالية الحديثة، بل في قيمة الديمقراطية نفسها. ما نحتاجه هو تعميق البحث والنقاش حول قيم الديمقراطية، وليس حول قيم اللبرالية. وهناك تقاليد مختلفة تمامًا في الدفاع عن فكرة الديمقراطية، ليس اللبرالية غير واحدة منها. وما نجاحها في الغرب الحديث غير حادثة سياسية ومعيارية محلّية، خاصة بتقاليد في الحكم وفي رؤية العالم ومفاهيم المجتمع ومعاني الإنسان، قد لا تتوفّر في ثقافات أخرى.
كتاب “الهوية والحرية” للمسكيني
لا وجود لحرية بلا هوية. لكنّ ما نسمّيه “هوية” يمكن أن يكون مدعاة لخلط كبير لا شفاء منه
نعم، كل من يريد فرض اللبرالية على مجتمعات غير غربية هو يفرض جهازًا هوويًّا على ذوات تنتمي إلى مصادر معيارية للنفس، مختلفة. ومن ثمّ هو يصادر الحرية التاريخية لشعوب برمّتها، حريتها في أن تتذوّت على النحو الخاص بها، وحريتها في أن تختار نموذج العيش الذي يلائمها، ومن خلاله هي تشكّل هوياتها الحية. – لكنّ هذا ليس حكرًا على “العلماني” وحده. فجميع الفرقاء دون استثناء هم يبحثون عن أدواتهم الفكرية أو الدعوية في أيّ تراث يقع تحت أيديهم. ومن ثمّ فإنّ السلفيّ أو الإسلامي هو أيضًا، على قدم المساواة، يسعى إلى فرض التصوّر السلفي أو الإسلامي للشورى باعتباره نموذجًا جيّدًا للحكم الصالح. وهذا لا يخلو بدوره من عنف تأويلي ورمزي على المشاركين الآخرين، “المحدثين” أو “العلمانيين”، في دائرة النقاش حول مستقبل الدولة لدينا.
وقد ذكرت دومًا أنّ “الهوية” ليس لها مضمون واحد، بل إنّ الهوويين يمكن أن يكونوا شيوعيين أو ليبراليين أو حداثويين، نعني أنّ الدفاع عن جهاز هووي جاهز، هو موقف لا ينحصر في جهة الإسلاميين أو السلفيين. لكنّ حرص السلفي أو الإسلامي على اعتبار الدفاع عن الهوية (العربية الإسلامية) شرط أيّ تصالح مع الدولة الحديثة هو الذي دعاني إلى معاملته كممثّل قويّ للنموذج الهووي. لكنّني لا أعتبره الممثّل الوحيد لخطاب الهوية.
ومع ذلك فالنزاع أو التصادم الفكري بين النموذجين، العلماني والسلفي، ليس -ولا يجب أن يكون- تهمة لأحد.
تتضمن غالب كتاباتك هجاءً عنيفًا للهوية التي صنعتها الدولة الحديثة، نتيجة لجهاز الهوية الذي ينتج (أوراق الهوية، وصورة الهوية والبصمة، ويحدد اللغة والدين والقبيلة)… ألا يعد هذا طرحًا مثاليًّا، كيف نتصور أن تقوم دولة أو كيان حديث دون هذه المحددات، التي هي في الأخير نتاج تراكمات المجتمع الذي وصل إلى الحكم فصيل منه؟
من يكتفي بإخبارنا بالحقيقة هو لا يفكّر. ففي واقع الأمر ليس ثمّة حقائق جاهزة عن أنفسنا أو عن العالم، الخ. ولذلك أفضل ما ندّعيه هو التفكير الذي يستمدّ من التدرّب على توسيع حدود العقل لدينا وجاهته. وهي دومًا وجاهة مؤقتة. بقي أن ننبّه إلى أنّ التفكير ليس هجاءً لأحد، وخاصة هو لا يمكن أن يكون هجاءً للهوية بما هي كذلك، بل هو تفاوض عسير مع إمكانيات هوية مغلقة أو مهجورة أو ممنوعة أو مسكوت عنها. ولذلك علينا أن نميّز بين دفاع دعاة الأصالة عن الهوية (العروبة، الإسلام، البربرية، السنّة، الشيعة،..) وبين المفهوم الحديث، الإجرائي والإداري، للهوية، الذي هو من صنع الدولة القومية الحديثة. وهو جزء من ترسانتها القانونية (إلى جانب السيادة والشرعية والحدود والإقليم واللغة، الخ.). قد يستفيد الجميع، الإسلاميون والعلمانيون، من الخلط بين الهوية (الثقافية، الدينية،..) والهوية (القانونية، الإدارية، القومية،..). لكنّ النتيجة هي في آخر المطاف وخيمة. وأحد أسباب تحوّل الثورة إلى حدث تاريخي لقيط في أفقنا راهنًا، هو مثل هذا الخلط.
ما يجدر بالفيلسوف أن يقترحه هو تمرين الناس على هوية إنسانية حقًّا، كونية أو قادرة على الكونية، ومن ثمّ يتيسّر عندئذ تمرين الدولة القومية نفسها (سواء كانت دينية أو علمانية) على الاعتراف بدائرة حقوق في الهوية لا يمكن لأيّ جهاز سلطوي أن يحتكرها أو يراقبها سلفًا. ما صنعته الدولة الحديثة هو هوية مصطنعة، إجرائية وإدارية كي تمارس سلطة بيوسياسية منتظمة وناجعة على أجساد طيّعة مؤهّلة للخضوع والاستعمال العمومي للمجتمع كشبكة حيوية من تقنيات الرقابة وأشكال التذوّت، كما شرح ذلك “فوكو” بطرافة شرسة. ومن ثمّ علينا تنزيل الثورات العربية الراهنة في سياق مقاومة منطق الدولة الحديثة، المعولمة، أكثر منه في سياق الصراع المحلّي بين العلمانيين والسلفيين.
تؤكد كثيرًا بأن “ثمة حق حيوي كوني من شأن كل بشري معاصر أن يتمتع به، ألا وهو الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني..” أليس النوع الإنساني هو بطبيعته عبارة عن مجموعة من الهويات المتعددة التي تحددها عوامل الجغرافيا والزمان، والإرث، والبيئة، والمجموع…إلخ، بحيث يصبح من المستحيل الحصول على ذلك “الإنسان المجرد”.. ما رأيك؟
علينا أن نميّز بين “النوع الإنساني” وبين “الإنسان المجرد”. نحن ننتمي إلى حظيرة النوع البشري باعتباره دائرة معنوية تجمع بين البشر الأحياء (والموتى)، بواسطة رباط رمزي أو روحي أو أخلاقي أو عقلي أو مدني،… يبدو أنّ البشر لم يبلغوا إلى الاتفاق حول وجاهته أو دلالته إلاّ بشكل متأخّر جدًّا. فكرة “الإنسانية” ربما لم تظهر في صفائها المفهومي إلاّ في أواخر القرن الثامن عشر. أمّا معنى “الإنسان المجرد” أو “الكلي” أو “العام” فهي معنى يوناني، وقد تمّ ضبطه منذ سؤال سقراط “ما هو؟”. هذا يعني أنّ النوع الإنساني ليس مجرد “مجموعة من الهويات المتعددة”. بل هو دائرة هوية أوسع أفقًا وأخطر دلالة على وجودنا التاريخي على الأرض. والأمر لا يتعلق بوجود أو عدم وجود “إنسان مجرد” بل بمعنى الانتماء إلى هوية أوسع نطاقًا من الهوية القومية أو الثقافية لأيّ شعب. عنوان المشكل هنا هو المعنى القرآني للـ”تعارف” بين الأمم. نحن “تعارفيون” أكثر ممّا نعتقد. وبالتالي هناك حقّ كوني في التعارف لا يمكن أن نسمح لأحد بدوسه أو إبطاله.
ما يجدر بالفيلسوف أن يقترحه هو تمرين الناس على هوية إنسانية حقًّا، كونية أو قادرة على الكونية، ومن ثمّ يتيسّر عندئذ تمرين الدولة القومية نفسها
النوع البشري طفل ميتافيزيقي لا يحق لأحد أن يكذب عليه متعمدًا. ولو باسم الآلهة. لكن لا حدّ للتعالي الإنساني: كل من يريد أن يذهب فيما أبعد من الحيوان الذي فيه، في جسمه وفي عقله، له ذلك. مع العلم بأنّ ذلك مهمّة غير مأمونة العواقب.
تساءلت مرة فقلت: “إلى أي حد يمكن للفيلسوف أن يفكر في الذات بلا هوية، متى تقترح علينا الفلسفة المعاصرة ذاتًا بلا رواسب هووية لا شفاء منها” .. هذه الذات المجردة ألا تصبح بهذا التجريد مجرد جسم/ كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى؟
كان هذا الكلام نقاشًا مع إشكالية الفلسفة الغربية الحديثة: فهي من جهة، ما فتئت تؤكّد، منذ ديكارت، أنّ الأنا المفكّر هو درجة من الانتماء إلى أنفسنا هي من الصفاء واليقين والاستقلال والإثبات لنفسها، بحيث يمكن أن نؤسّس عليها شروط إمكان الحقيقة حول ظواهر العالم من حولنا. ولكن في المقابل، منذ “هيغل”، انخرطت الفلسفة الغربية فجأة في بناء سرديات كبرى حول “هوية” هذا الأنا وتاريخه الروحي وأطوار وعيه بذاته والتشكّلات اللغوية التي تكلّمها،…الخ. وبالتالي فوجئنا بنوع من “الخيانة” للمشروع الديكارتي الذي كان رائدًا في بلورة تصوّر كوني للأنا القادر على السيطرة على الطبيعة من حوله بواسطة عقله التقني فحسب. لكنّ القرون التالية من تاريخ الحداثة قد شهد تراجعًا مريعًا عن تلك النزعة الكونية في الأنا المحض للإنسان بما هو إنسان، وتحوّل إلى برنامج فينومينولوجي للهوية الغربية التي لم تدّخر جهدًا في ترجمة انتصارها الميتافيزيقي على المفهومات قبل الحديثة للإنسان، إلى برنامج لاستعمار العالم والعمل على “أوربة” أو “غربنة” الوعي البشري قاطبة، وذلك تحت حماية فلسفية شديدة (هيغل، مل، فيبر،…).
ولذلك ثمة فرق بين “ذات بلا هوية”(نعني ذاتًا قادرة على التحكّم في هواجسها الهووية) وبين “الذات المجردة التي تصبح بهذا التجريد مجرد جسم/ كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى”. لكنّه فرق سعيد: نحن فعلاً نريد أن نقترح معنى حيويًّا للهوية. فالحياة ليست أقلّ انفعالات الكائن أو الجسم. بل بالعكس، نحن قلّما نكون أجسامنا، وبالتالي قلّما نكون أحياءً بالمعنى الراقي للكلمة. فمجرد امتلاك جسم مادي، عضوي، حي، لا يعني أنّنا نعيش حياتنا بالشكل الذي يجعلها حياة قابلة للعيش، كما تقول فيلسوفة الجندر الأمريكية، “جوديث بتلر”.

فلسفة الثورات العربية

قلت في معرض الإشادة بالثورات العربية، بأننا نشهد في العالم العربي أول تفكك داخلي لمفهوم “القائد” في مخيالنا السياسي، وسقوط مفهوم “النخبة”، و”الزعيم”. ألا ترى أن غياب هذه العناصر كانت أحد أهم العوامل لتفكك جهود الثائرين وضياعها وتناحرها، ومن ثم فسح المجال مرة أخرى لعودة كبيرة لفكرة “الزعيم” في ظل ترحيب متعطش لها من قبل الجماهير، كما يحدث في مصر الآن، ما رأيك؟
ما قلناه عن تفكّك فكرة “القائد” أو “الزعيم” يتعلق خصيصًا بالقائد أو الزعيم “الهووي”. نعني الذي يأتي ليطبّق برنامجًا جاهزًا للحرية أو للعقيدة أو للانتماء، الخ. ما وقع هو أنّنا دخلنا العصر ما بعد الإيديولوجي، و”النخبة” الإيديولوجية لم يعد لها أيّ مكان. ربمّا سيعوّضها لبعض الوقت نوع من المثقف ما بعد الإيديولوجي. لكنّ المؤكّد هو أنّ فكرة “القيادة” أو “الزعامة” قد تغيّرت. مع الثورة، نحن دخلنا فجأة في ما بعد تاريخ الدولة العربية التي نعرفها منذ الاستقلال. وفجأة تحوّل الفضاء العمومي للتفكير إلى معمل لصنع الممكنات، ولكن أيضا “للاّ-ممكنات”. علينا أن نقرّ بأنّ الثورة ليست شركة أو دبلومًا. بل هي حالة ذهنية أو حالة حرية. ولذلك فإنّ تعثّر الثورات العربية في مصر أو في تونس ليس راجعًا سببه إلى غياب القيادات أو الزعامات أو النخب التقليدية المناسبة. بل سببه هو الفراغ السياسي الذي ينجم عن العصر ما بعد الإيديولوجي. في غياب خطاب هووي (إيديولوجيا رمسية جاهزة) تصبح الدولة لعبة من الحريات التي لا تملك برنامجًا محدّدًا أو موحّدًا لنفسها. دخلنا في علاقة طيفية مع أنفسنا الجديدة: أنواع عديدة من المستقبل أخذت كلّها تعمل في وقت واحد.
أمّا “فسح المجال مرة أخرى لعودة كبيرة لفكرة “الزعيم” في ظل ترحيب متعطش لها من قبل الجماهير”، فهذه ترجمة لما وقع في مصر في لغة ما قبل الثورة. نحن نفترض أنّ المشكل ليس غياب القائد، ومن ثمّ فإنّ ترحيب الجماهير بترشّح “قائد” الجيش ومطالبته بالعمل على “إنقاذ” الثورة من الإخوان “المضادين للثورة”، هو موقف يمكن قراءته بطريقة أخرى تمامًا. ما يطالب به الجمهور ليس العودة إلى القيادة الهووية للزعيم التاريخي، الملهم، الخ. وإلى المخيال السياسي للزعامة المصاحب لها، بل فقط حماية الثورة الحماية المؤقتة المناسبة التي تؤمّن الانتقال الديمقراطي المتعثّر. وقد أيقن المصريون -على خلاف التونسيين- أنّ الجيش أو المؤسسة العسكرية يمكن أن تتدخّل مباشرة في حسم النزاع. ولذلك فالجماهير تبحث عن مساعدة عسكرية في ظلّ جوّ حربي فرضته الحركات المتطرفة على المجتمع المدني. مساعدة بدون أيّ اعتناق إيديولوجي. ولكن يحق لنا أن نسأل في المقابل: هل هذا الاختيار مأمون العواقب؟ ألا يوفّر ذلك فرصة سانحة لعودة الحاكم الهووي تحت غطاء المنقذ؟ ما نرجوه هو شيء آخر: ينبغي تنشيط كلّ تقاليد “التدبير” التي عرفتها الإنسانية وتدبير العالم وكأنّه المنزل الأخير للإنسان. وما يسمّى راهنا “الحكم الصالح” أو “الحكم الرشيد” أو “الحوكمة” هو استعادة محتشمة، تحت غطاء نقد التصوّر القانوني للدولة الحديثة، لمعنى “التدبير” الذي فكّر به القدماء: التصرّف المناسب المقتصد المحتسب للثروة أو الموارد باعتبارها أمانة ما بعد شخصية للشخص “مسئول”، الذي لم يعد يحقّ له أن يعتبر نفسه “حاكمًا” أو “قائدًا” لأحد. نحن ننتقل من مقولة “الحاكم” إلى مفهوم “المسئول”. وإن كان ذلك يتمّ ببطء لاهوتي محبط.
بعد أن تحدث الكثيرون بأن حقبة الربيع العربي قد انتهت، دعني أوجه لك سؤالاً سبق وأن تساءلت به أنت في إحدى مقالاتك: كيف تحوّلت الثورة إلى نقاش لا نهائي عن الشرعية؟ وكيف انقلبت آمال الحرية إلى مجموعة فظيعة من المجادلات.. والحروب؟
بعد فوز الإسلاميين في الانتخابات في مصر وتونس، تشكّل مشهد جديد للحكم: أناس بنوا وجاهة هويتهم السياسية على نقد الدولة الحديثة والتصادم العنيف معها، وصلوا أخيرًا إلى الحكم بطريقة شرعية. ولكنّ المجتمع المدني الذي احتفى بالثورة وجد نفسه مرغمًا على تسليم السلطة الشرعية إلى طبقة سياسية لها برنامج سياسي لا علاقة له بأهداف الثورة كما تشكّلت في أذهان الشباب العاطل الذي قام بها. ومن ثورة كرامة تحوّلت فجأة إلى ثورة هوية. يبدو لي أنّ الثورة قد وقعت في لحظة وهن ما بعد إيديولوجي جاءت الحركات الإسلامية واستغلّته وحوّلته إلى انتصار عقدي ودعوي لطرف كان حذرًا جدّا من الثورة بمعناها الحديث. لكنّ من ينجح في استغلال الفراغ ما بعد الإيديولوجي لا يعني أنّه يمتلك برنامجًا مناسبًا للحرية.

أنصار مرسي في مصر يرفعون شعار “رابعة العدوية”
الإسلاميون سرقوا الحرية من قلوب أصحابها وحولوها سريعاً إلى أداة هووية
إلاّ أنّ ذلك النقاش الطويل حول الشرعية لم يكن خطأً أو تحريفًا للمسار، بل فقط كشف عن عمق الفجوة التي تفصل بين هويتنا الثقافية التي تتجذر في تجربة الإسلام الكلاسيكي وبين هوية الدولة الحديثة. وعلى كل تحتاج الحرية ما بعد الدينية وما بعد العلمانية إلى جدل حقيقي مع نفسها، حتى نتأكّد من أنّ ما وقع لم يكن مزحة تاريخية على الشعوب.
المطلوب هو طرح مسائل “الشرعية” على مستويات أخرى، وبطرق أكثر تركيبًا. فمن يتمّ انتخابه من قبل الناخبين في وقت دون آخر هو ليس قائدًا أو ملهمًا أو شرعيًّا بإطلاق. بل هو فقط مترشّح استجاب لانفعالات الناس في مرحلة معيّنة. وهذه الانفعالات مؤقتة وهشّة ويمكن بناؤها أو هدمها. ولذلك فالشرعية دور عمومي وليس ملكية خاصة لطرف دون آخر. ثمّة فرق مميت بين “الشرعية” (الانتخابية) و”المشروعية” (الأخلاقية) و”الشرع” (الديني). والإسلاميون يميلون إلى الخلط بين هذه المعاجم. لكن الطرح العلماني هو بدوره لا يخلو من خلط بين “الشرعي” (القانوني) و”المشروع” (المبرّر أخلاقيًّا حسب الجماعة الروحية العميقة التي تخترق مشاعر المواطنين في شكل ذاكرة أو هوية أو انتماء أو قيم…).
هل تبدلت مواقفك من الثورات العربية بعد أن رأيت مآلاتها الآن وقد انتهت إلى احتراب داخلي، في سوريا، ومصر، وليبيا، واليمن..؟
لا. الشعوب لا تندم. ونحن لا نفعل سوى أن نرافق قيمة الحرية في أفقها. وأيّ دور آخر هو بمثابة اعتداء عليها. ومع ذلك علينا أن نميّز بين حاجة الشعوب إلى “الثورات” حتى تستعيد توازنها التاريخي بين الهوية والحرية، وبين “مآلاتها” الحربية الراهنة. إذ من يخوض الحرب في هذه البلدان؟ إنّ “هوية” الثائر قد تشوّشت بشكل فظيع. وصرنا لا نفرّق بين “الشعب” و بين “الفصائل المقاتلة”، ضدّ الدولة الحديثة. لكنّ تدمير الدولة لن يؤدي إلاّ إلى خراب الهوية والحرية معًا. ولذلك فمن يفكّر في دلالة الثورة ويصاحب تعرّجاتها المفهومية، هو لا يدافع بأيّ حال من الأحوال عن “الاحتراب الداخلي” في البلاد العربية. أشار “كانط” مرة إلى أنّ الحرب يمكن أن تكون “جليلة” حين تقوم بشكلها المناسب. وليس مناسبًا للحرب مثل أن تدافع عن قيمة الحرية في وعي شعب ما. هل تندم الحرية ؟ طبعًا، لا يمكن للفكر أن يدافع عن الشرّ ؟ على كل حال، لم نبلغ بعد هذا المستوى من البراءة ما بعد الأخلاقية. لكنّ إرهاب الحقيقة ليس أقلّ قتلاً من إرهاب الخطأ. ويبدو لي أنّ الشعوب لا تخطئ. إنّها فقط تدافع عن أوهامها. ولذلك كلّ من يواصل الحديث عن العدالة يخادعنا. طمأنة الأطفال البشرية أفضل.
في الغرب، وصل الشخص البشري إلى العيش داخل أجساد عابرة للأجناس. أمّا لدينا فنحن ما نزال نستكثر على الشعوب أن تطوّر أرواحًا عابرة للأديان. والحال أنّ الجندرة الدينية أخطر وأشدّ فتكًا من أيّ جندرة أخرى.
ما تفسيرك لانبعاث التطرف الديني من جديد في العالم العربي، مصحوبًا بتأييد شعبي كبير، هل فشلت الدولة الحديثة في تأسيس قيم الحداثة، وذهبت جهودها سدى منذ دولة محمد علي باشا وحتى اليوم؟
هذا سؤال رشيق، كنت أنتظره. نعم، إنّ جزءًا كبيرًا من المشكل يرجع إلى دور الدولة ومفهومها. نحن لم نتوفّق إلى حدّ الآن في بلورة مفهوم مناسب للدولة لدينا. هناك حكم، ولكن ليس هناك دولة. ولذلك فإنّ “التطرف الديني” ليس مفصولاً عن طبيعة العلاقة الحديثة التي تبنيها الدولة مع الأفراد. وعلينا أن نكفّ عن معاملة التطرف وكأنّه عاصفة متأتية من قلب القرون الوسطى. إنّ التطرّف جزء من ماهية الحداثة نفسها. نعني بالحداثة إرادة إخضاع الكائن بواسطة العقل التقني باعتباره مجرد شيء لا يملك أيّ معنى خارج الاستعمال الأداتي له. ولو ترجمنا هذا في نظرية السيادة أو السلطة أو القانون، الخ. كما تستعملها الدولة الحديثة لفهمنا أنّ أيّ نوع من “العنف” الحديث (والتطرف شكل منه) هو جزء من طبيعة العلاقة مع الدولة الحديثة، وليس غريبًا عنها. ذلك يعني أنّ قيم الحداثة هي نفسها لا تخلو من عنف تكنولوجي وقانوني وطبي وحربي، الخ. وليست أسماء ماركس ونيتشه وهيدغر وأدورنو وديريدا،الخ. إلاّ إشارات حادة إلى نقد الطابع الحربي العميق للذاتية الحديثة.
التطرّف جزء من ماهية الحداثة نفسها. نعني بالحداثة إرادة إخضاع الكائن بواسطة العقل التقني باعتباره مجرد شيء لا يملك أيّ معنى خارج الاستعمال الأداتي له
أمّا التأييد الشعبي للتطرّف الديني فهو رأي قابل للنقاش. فالشعب لئن كان يؤيّد الدين فهو لا يؤيد التطرّف. يمكن أن نخدع شعبًا من الشعوب باستعمال مصادر ذاته ضدّ غريزة الحرية لديه، ولكنّ ذلك لا يتمّ إلاّ في ظروف هووية مهينة أو مؤلمة. أمّا في حالات الصحة التاريخية فالشعوب لا يمكن خداعها، ولو بالدِّين.
في ذات السياق، وفي النموذج التونسي الذي فرضت فيه القيم العلمانية بقوة القانون منذ الحبيب بورقيبة، وانعجنت مع حياة الناس وشؤونهم، كيف تفسر أن يعود فيه التطرف الإسلامي بقوة طاغية، وتصبح الدولة الأولى في عدد المقاتلين الأجانب في سوريا؟
ثمّة مبالغة مضاعفة في هذا السؤال: أوّلاً، دستور بورقيبة لم يكن علمانيًّا بالقدر الذي يُشاع، بل كان مؤسسًا على اجتهادات منتقاة من الجدل الفقهي الإسلامي ومدارسه المختلفة؛ وبهذا المعنى فالتهمة العلمانية ليست قوية، إلاّ إذا اعتبرنا موافقة الأحكام الحديثة لأحكام إسلامية خطأ علمانيًّا. وثانيًا، من الإجحاف القول بأنّ “التطرف الإسلامي” قد عاد “بقوة طاغية” في تونس. ولئن كانت هذه الأخيرة “الدولة الأولى في عدد المقاتلين الأجانب في سوريا”، فذلك لأسباب لا علاقة لها حصرًا بالتطرف الديني. نعم، في تونس هناك حركة إسلامية، لكنّها ليست كلّها “متطرفة” ولا هي “طاغية”، وفي العمق هي (كما هو حال حركة النهضة) إسلام تونسي شبه بورقيبي. وبعامة فإنّ ما حدث هو وجود أطياف إسلاموية عابرة للبلدان العربية ومعولمة، ولا يمكن اتهام أيّ بلد بأنّه صنعها أو صدّرها. أمّا الذين يذهبون إلى سوريا للقتال فعلينا أن نسأل: “من” انتدبهم لذلك؟ ثمّ ما هي “الأسباب” الحيوية التي دفعتهم إلى الإقدام على هذه المغامرة التي تكلّف المال الكثير بالنسبة إلى شباب عاطل عن العمل منذ عشرات السنين؟ أنا لا أجد فرقًا حقيقيًّا بين من “يحرق” إلى إيطاليا ويموت غرقًا في البحر فيأكله سمك القرش، وبين من “يهاجر” للقتال في سوريا ويموت برصاص الحاكم الهووي للدولة الحديثة.
في كتابك “الثورات العربية.. سيرة غير ذاتية” حذرت من “سرَّاق الثورات في الداخل” .. ألا ترى بأن هذا المصطلح قد أصبح فضفاضًا وغير واضح المعالم كل طرف يطلقه على الآخر ؟ من هم السُرّاق؟، وما هو المسروق؟
بالعكس، سرقة الثورات هي صناعة ذكية للنخب ما بعد الإيديولوجية ولن تنقرض قريبًا. أمّا تبادل التهم بها من طرف الفرقاء فهذا لا يغيّر من طبيعة المشكل شيئًا. السرّاق هم من لم يشاركوا في الثورة ولا كانت جزءًا من برامجهم العميقة. وهذا الوصف ينطبق على كلّ النخب السابقة على الثورة. وبالتالي هي لا تنحصر في خانة الإسلاميين. أمّا المسروق فهو حلم الحرية، لا غير.

يمكن للشخص العادي، اليومي، اللامبالي، بآلام شعب أو مجموعة من الشعوب، أن يكون بمثابة سارق كبير، محترف، لقيمة الثورة. وإن كان سيبيعها في آخر الشارع لأيّ متطفّل على السوق.

تحلم الشعوب العربية الحالية بالارتقاء إلى شكل كريم من الحياة القابلة للحياة. وهي لا تشترط أيّ وصفة محدّدة لهذا الحلم. كلّ ما يساهم في تحقيق كرامة البشريّ هو قيمة حرية. وعلى الدول أن تكفّ من استعمال فزّاعة الهوية ضدّ الشعوب. بل عليها أن تساعدها على الانتصار على ثقافة الموت التي يمكن أن تقع تحت أيدي سرّاق الحرية، مهما كان اسمهم أو مذهبهم، فيستعملونها ضدّ الحياة.
ألا يقودنا الحديث عن “الثورة” بهذا الشكل، إلى أن تتحول هي الأخرى إلى “هوية” تحاصر حريتنا. قد حدث ذلك كثيرًا حين تحولت “الثورة” إلى أيدلوجيا بها يلاحق ويقتل الخصوم؟
أجل، بالفعل. يمكن للثورة أن تنقلب شيئًا فشيئًا إلى جهاز هووي فارغ يحاصر الحريات الجديدة في كل مرة. وذلك يعني أنّ الثورة نوع من الآتي الذي يسخر من جميع المنتظرين له دون اختراعه. طبعًا، من السخرية أن نؤجّل ما لا يأتي أبدًا. وشعوبنا بدأت تسخر من نفسها، من ثوراتها، وذلك بإغلاق باب المستقبل عليها، والتفرغ إلى حاضر شكلي بلا وعود كبيرة. نحن خرجنا من الثورة لكننا لم ندخل إلى أيّ مرحلة مختلفة. طبعًا، الثورة رسمت حدودًا جديدة لأنفسنا. لكن العالم لم يتغيّر. نحن نحاول أن نشغّل آلة المستقبل إلاّ أنّها لا تستجيب من فرط تعوّد الوعي بالزمان التاريخي لدينا على التعويل على الدولة. والتعويل على الدولة في تحديد معنى المصير هي آفة شعوبنا. ولذلك حين وقعت الثورات، نحن لم نعثر بعد على زاوية النظر المناسبة للحكم على ما وقع.
لكنّ التخيير بين الثورة والدكتاتورية لا يناسب مروءة التفكير الحرّ ولا ينصف أحدًا.

الفلسفة والدين

دعني أنتقل لشق آخر، سبق وقلت بأن “الفلسفة ليست بالضرورة نقدًا للدين، بل تأصيلاً جذريًّا لإمكانيته في الطبيعة البشرية”، إذن كيف تفسر هذا الصراع التاريخي القائم بين الفلسفة والأديان التي ترى بأن العقلانية التي تسعى إليها الفلسفة تهدف إلى هدم فعالية المقدس؟
في الحقيقة ما نسمّيه “صراعًا تاريخيًّا بين الفلسفة والأديان” هو ظاهرة “ثقافية” أو “إيديولوجية” حديثة العهد جدّا، وليس جزءًا من ماهية الفلسفة في لحظاتها الأصيلة. بل إنّ اسم الفلسفة الأكبر هو “الإلهيات” وليس شيئًا آخر. وهل يوجد خطاب آخر للبحث في وجود الله أو خلود النفس أو طبيعة العالم غير الميتافيزيقا؟ – قد تكون أقوال الفلاسفة مثيرة للحيرة أو مدعاة للتساؤل العميق، أو جريئة جدّا بالنسبة إلى العقل الكسول، لكنّ ذلك لا يجعل منها عدوّة لمن يبحث عن الحق، أو يريد أن يحرّر نفسه و”يكسر زجاجة التقليد” كما قال الغزالي الحائر ذات مرة. ربما ما يثير في الفلسفة هو كونها تشترك مع الأديان في ميدان السؤال لكنّها تختلف عنه في طريقة الإجابة. إنّ إله الفلاسفة مختلف عن إله الأديان لكنّه إله أيضًا. وليس خديعة نظرية. الفرق بين الفلسفة والدين هو كون الفلسفة تصارحنا بأنّ عقولنا هي سقف الحقيقة الممكنة بالنسبة إلى كائنات من نوعنا. أمّا الدين فإنّه لا يجرؤ على ذلك، وإلاّ انهدم بنيانه العقدي. والحال أنّ الدين هو أكبر مؤسسة معنى اخترعها النوع البشري من أجل تدريب البشر على تحمّل عبء الكينونة في العالم وتحويلها إلى مشروع أخلاقي لأنفسنا. ولولا الدين لكان النوع البشري قد انقرض منذ وقت طويل. ولذلك فكلّ من يحرص على تغذية العداء المزّيف بين الفلسفة والدين هو لم يفهم شيئًا من طبيعة الحاجة الأصلية إلى السؤال الفلسفي، أي إقامة السؤال الكلي عمّا يتخطّى أفق العقل البشري كما هو متاح للكائنات التي من جنسنا، ومع ذلك نحن لا نستطيع ألاّ نتساءل عن ماهيته أو عن معناه أو عن نمط الكينونة في العالم التي يفرضها علينا. وهذا أمر نعته “كانط” بأنّه “القدر الخاص” بالعقل البشري: كونه مهمومًا بأسئلة، من جهة، لا يستطيع تلافيها لأنّها نابعة من طبيعته، ومن جهة، لا يستطيع الإجابة عنها لأنّها تتجاوز قدرته على الإجابة. هل يمتلك الدين ميدانا آخر للمعنى؟ وما الذي يعنيه بكلمة “المقدس” غير تلك المنطقة التي تصبح فيها الأسئلة التي تؤرق العقل البشري ليس فقط ممكنة بل ملحّة بشكل لا مردّ له؟
قد تظهر الفلسفة في مظهر دين خجول. وقد يبدو الدين في هيئة فلسفة خرقاء. لكنّ ما يجمع بين الطرفين هو أرق العقل أمام ما يتعالى على النفس البشرية، ويدفع بها إلى نمط رائع ومريع من الأسئلة التي لا يمكن لأيّ طرف أن يزعم الإجابة النهائية عنها. ومنذ “كانط” أصبحنا نملك تفسيرًا مناسبًا لعقولنا عن كيفية تشكّل ميدان الرجاء في النفس البشرية، وكيف يمكن تمرين النفوس الحرة على إيمان بلا لاهوت جاهز. ثمّ صرنا اليوم نعرف أنّ المقدّس ينطوي هو ذاته على شكل فريد من المعقولية، ينبغي الإنصات إليها ومساءلتها من الداخل دون أيّ أحكام “عقلانية” مسبقة. إذ يشير المقدّس إلى تجربة معنى على الفلاسفة (كما دعا إلى ذلك هيدغر) أن يدخلوا في حوار عميق معها. وهو ما حاول الانخراط في إنجازه فلاسفة أشدّاء من قبيل ليفناس وريكور ودريدا.
أشعر أنّ ثمّة إرادة تشويش على ثقافة العقل في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. فالكل يعلم، من الفقهاء إلى الفلاسفة، مرورًا بالساسة وكل أنواع المثقفين، أنّ الإسلام الكلاسيكي، مدوّنة وتجارب وآثارًا فنية وفلسفية وعلمية، لم يكرّس أبدًا عقلانية هدّامة لفعالية المقدّس. وإذا لم يكن أسلافنا قد رأوا أيّة فائدة ميتافيزيقية أو وجاهة حضارية في معاداة الشرائع، فلماذا نقوم نحن بذلك، نحن أبناء الأزمنة الحديثة؟
لقد تبيّن اليوم -أكثر من أيّ وقت مضى- أنّ الدين مؤسسة رمزية تنطوي على معقوليات محايثة، معقّدة ومتماسكة لا يمكن إنكارها. ومن ثمّ أنّ ما يسمّى “المقدّس” (وهي تسمية غريبة عن ثقافتنا الكلاسيكية) هو ميدان رمزي وتأويلي على قدر عال من الكثافة الدلالية والعقلية، وليس مجرّد جدار أخروي لا يجلس تحته إلاّ مجانين الموت.
وليس صحيحًا أنّ العقلانية والفلسفة هما مترادفان. كما أنّه ليس صحيحًا أنّ الدين والمقدّس هما نفس الشيء. ثمّة مقدّسات غير دينية بل علمانية أصلاً. وكلّ معارك الدولة القومية الحديثة تمّت تحت نداء مقدّسات غير دينية (تقديس الواجب، الوطن، الأرض، العلم، الكرامة،…). كما أنّ الفلسفة هي بالأساس تجربة تفكير حرّ ينقد العقل في كل ملكاته، ويرسم حدوده ويحاكمه، وإن كان يفعل ذلك بواسطة العقل نفسه. وهذا ما لا يريد دعاة التكفير فهمه: أنّه يمكننا كبشر أن نذهب فيما أبعد من عقولنا ولكن بواسطة عقولنا وحدها. وكل سردية أخرى، مهما كانت نبيلة ينبغي مرافقتها بالعقل. وعلى كلّ فإنّ العقل مؤسسة لم تستقرّ بعد لدينا.
ترجمت أعمالاً فلسفية مهمة لكبار الفلاسفة، ككانط وهيدغر، كيف ترى واقع الترجمة العربية للأعمال الفلسفية… هل الاعتماد عليها بالمجمل يمكن أن يقدم استيعابًا ناضجًا لأهم النظريات الفلسفية؟
الترجمة مسار تاريخي من التمرين الروحي على تأهيل لغتنا للمشاركة في النقاش الكوني حول مستقبل العقل الإنساني، ومستقبل النوع البشري. ولذلك فكلّ جهد ترجمي هو بشرى سارة للعقل في أيّ ثقافة، وذلك مهما كان مستوى تلك الترجمة من الدقة أو الرشاقة أو الأمانة. لكنّ الرداءة ليست قدرًا. وعلينا أن نعمل على تحسين أداء لغتنا في استيعاب المكاسب الروحية والجمالية والعلمية والمدنية الكبرى للإنسانية الحديثة انطلاقًا من أنّ ذلك هو عمل إستراتيجي يتوقّف عليه مستقبل الحرية في أفقنا الأخلاقي والسياسي، وليس مجرّد استجابة تقنية لحاجة المدارس. واقع الترجمة العربية في تحسّن مطّرد وعلينا أن نأمل المزيد من الوعي بأنّ الترجمة عملية تحرير مريرة لعقولنا بواسطة تدريب طريف جدّا للغتنا على تكلّم اللغات العظيمة التي شكّلت وعي الإنسانية الحالية. إنّ الألمانية مثلاً، أو الإنجليزية أو الفرنسية، هي بمثابة أقدار ميتافيزيقية وروحية للإنسان الحديث، وليست مجرد ألسنة قومية لشعوب معزولة. ولذلك علينا امتحان العربية بلا انقطاع حتى تقول الإنسانية الحالية بكل حقائقها وجروحها وأوهامها وتجاربها، بلحمها اللغوي الخاص.

ن
حن لا نشترط “استيعابًا ناضجًا للنظريات الفلسفية” فهذا أمر أوّلي ومدرسي فقط. فالمترجم الأصيل هو الذي يجرؤ على تعليم الفلاسفة الغربيين كيف يتكلّمون لغة الضاد، ومن غير لكنة ولا عجمة. الترجمة تدرّب على استدعاء العقل الإنساني الكوني إلى داخل لغتنا. فإذا طال هذا بنا وتحسّن كأشدّ ما يكون، صار عندئذ إنتاج العلوم بلغتنا ليس فقط ممكنًا، فهو ممكن دائمًا، بل صادرًا عن عفوية ميتافيزيقية وإبداعية عميقة لثقافتنا، ليس كثقافة محلية أو خاصة، بل كشريك قوي في مؤسسة العقل الإنساني في بعده الكوني. بالترجمة، علينا أن نجرّب على أنفسنا وعلى حواسنا وعلى عقولنا كلّ ما قالته الإنسانية الحديثة على لسان مبدعيها بلغات أخرى.الترجمة مسار تاريخي من التمرين الروحي على تأهيل لغتنا للمشاركة في النقاش الكوني حول مستقبل العقل الإنساني
من جانب آخر.. ألا يمكن القول بأنه مهما كان اجتهاد المترجم وسعة ثقافته وحذقه، فإن ترجمة النصوص الفلسفية والأدبية هي خيانة، خيانة بوجه أو بآخر؟
نحن لا نترجم إلاّ لأنّنا جزء من مساحة الإنسانية، وبالتالي فإنّ أيّ خيانة هي بمثابة حبّ آخر. نحن لا نخون إلاّ ما نحبّ. وهذا الأمر يشبه العلاقة مع الحدود: أنت لن تشعر بوجود حدّ ما إلاّ إذا ما اجتزته. ولذلك يُقال إنّ القوانين وُجدت من أجل اختراقها. والترجمة هي من هذا القبيل: علينا أن نمرّن لغتنا على خيانة اللغات الأخرى حتى تقول نفسها. المطلوب ليس الأمانة المميتة للغة/ الهدف، اللغة التي نترجم إليها، بل الخيانة اللائقة للغة/ المصدر، اللغة التي نترجم عنها، خيانة تليق بإمكانية الإبداع التي يُقدم عليها المترجم حتى يصبح كلام كانط أو هيدغر بالعربية ممكنًا. طبعًا، في بعض الأحيان علينا أن نختار بين “الجميلات الخائنات” (ترجمة تأويلية)، وبين “الوفيات القبيحات” (ترجمة تقنية). لكنّ الاختيار ليس يسيرًا دومًا. وعل كل حال ، كل ترجمة خيانة، ولكن في معنى نبيل: هو التأويل. وفي واقع الأمر كل كلامنا مجاز أو “تعبير” أي نقل للمعاني من مستوى من القول إلى مستوى آخر، وهذا يعني أنّ الترجمة لا تتمّ فقط بين لغة وأخرى، بل أيضًا داخل نفس اللغة. مثلا: من يستطيع اليوم أن يتذوّق معلقة جاهلية دون عمل تداولي نشيط على معانيها حتى تقول لنا شيئًا يليق بعقولنا ما بعد الحديثة؟ من يقرأ اليوم نصوص ابن عربي ويفهم حتى الطبقة التأويلية الأولى منها؟ بل إنّ القرآن نفسه، كما قال أحد مفكّرينا في تونس، هو نصّ لم نبدأ بعدُ في قراءته؟
عنونت خاتمة كتابك “فلسفة النوابت”، بسؤال “ما هو الفيلسوف” .. يبدو أن السؤال مازال قائمًا، برأيك ما هي الأدوات والصفات التي يجب أن تكون متوافرة لدى من يريد أن يقوم بمهمة الفيلسوف؟
في الحقيقة، كان سؤالي “من هو الفيلسوف ؟” وليس “ما هو الفيلسوف ؟”. والفرق بين الصياغتين خطير جدًا. لا توجد أبدًا أيّة “ماهية” مسبقة لشخصية الفيلسوف، بل فقط قدرة على احتمال السؤال عن معنى الكينونة التي تخصّه. وما يخصّ الفيلسوف هو نمط التفكير الذي يمتشقه كي ينشئ أفقًا للمعنى مناسبًا لتجربته في العالم المعيش الذي ينتمي إليه سلفًا. الفيلسوف مهمّة وليس ماهية. ولذلك هو مدعوّ دومًا إلى إعادة كرة السؤال عمّا لم يسأل عنه بعد. مع افتراض صارم بأنّ التساؤل أو “التسآل”( حتى نحيي تعبيرًا يعود إلى عصر المعلقات) هو نمط وجود على قدر عال من الاتساق والطرافة، وليس مجرد أداة للانتقال من الطلب إلى الإجابة. في الفلسفة، كل الإجابات تنتمي إلى لحظة الوهن الروحي للفكرة، حيث لم يعد هناك مساحة لمواصلة السؤال، بسبب مانع من الموانع، وهي دومًا موانع خارجة عن إرادة التفلسف. نحن نتفلسف دائمًا على حدود عقولنا المستقرة في ثقافة ما. ولذلك يبدو وجه الفيلسوف على الدوام وجهًا غير مألوف أو غير مكتمل الملامح أو مريبًا. وذلك من فرط هيمنة العقل الكسول، حسب عبارة “كانط”، على مناطق التفكير المتاحة.
لولا الدين لانقرض النوع البشري منذ وقت طويل. ولذلك فكلّ من يحرص على تغذية العداء المزّيف بين الفلسفة والدين هو واهم
لا يحتاج الفيلسوف كي يظهر في ثقافة ما إلى أيّ أدوات مؤسساتية أو إدارية. وهو لا يحتاج إلى وجود أيّة ملكات أو صفات خارقة كي يفكّر. ما يحتاجه الفيلسوف هو نمط من التعالي على كلّ ما نعرفه أو نفعله أو نقوله أو نحس به باعتباره جدارًا نهائيًّا وقاهرًا لأنفسنا. مثلاً: الثورة أتاحت أمام المتفلسفة فرصة تاريخية للانخراط في تجريب ميتافيزيقي غير مسبوق على حدود هويتنا المستقرة منذ ألفي عام. لكنّ النتائج مخيبة للآمال. وعلى كل لا تزال الثورة حدثًا غير مرئيّ بالنسبة إلى عديد المفكرين لدينا.
دور الفيلسوف أن يصاحب الآلام الكبرى، لا أن يشرّع لها. ليس عليه أن يفرض أيّ شكل على الصيرورة. لكنّه مطالب ببراءة السؤال.

سؤال الماضي

كثير من المشاريع والقراءات العربية حاولت أن تقدم صيغة ما للتعامل مع الماضي/التراث، ما بين القطيعة أو التفاعل أو الإحياء والتواصل .. كيف ترى هذه المشاريع وأثرها؟
يجدر بنا الآن أن نميّز تمييزًا صارمًا بين الفلسفة وبين قراءات التراث. وفي الحقيقة، كلّ من يحصر التفكير في مشاريع قراءة التراث هو يهوّن على نفسه كثيرًا، مهمّة التفلسف. كلّ العلاقات مع الماضي متهافتة، طالما هي لا تقدم على إعادة اختراع دلالة هذا الماضي بالنسبة إلينا، نحن سكّان المستقبل، انطلاقًا من أفق الحاضر. ولقد صُرفت مجهودات مريرة للسيطرة على دلالة التراث بالنسبة إلى جيل الاستقلال، وكأنّه بعد معركة التحرر من استعمار الحاضر، انخرط المثقفون في التحرر من استعمار الماضي. لكنّ الماضي لا يجب أن يكون خصمًا لأحد. بل هو جملة من مصادر أنفسنا القديمة علينا الاحتراس في التزوّد الروحي أو اللغوي أو الميتافيزيقي منها. كانت مشاريع الوقت الضائع: ففي غياب مغامرات كونية للعقل، وهي تتمّ دومًا في الحاضر، تنخرط الثقافات في معارك ذاكرة وعمليات تأبين واسعة لجثة الماضي في وعيها العميق، ولكن من دون أيّ قدرة حقيقية على الحداد. على كل حال، كانت بعض قراءات التراث ضربًا من تملّق الذات في وقت عصيب حيث لم يكن المثقف قادرًا على التفلسف بالمعنى الدقيق للمفهوم، أي إقامة الأسئلة الكونية حول كينونته في العالم. كان تحويل التفكير الفلسفي إلى قراءات تراث خطأ تاريخيًّا جسيمًا، أوهمنا بأنّه يمكننا أن نتفلسف بشكل محلّي. والحال أنّ الفلسفة كونية أو لا تكون.
أين تقف من الماضي/التراث؟ هل أنت مع القطيعة حتى نتخلص من “هوية ماضوية تقيدنا”؟
ما يقلقنا فعلاً اليوم هو المستقبل وليس الماضي. والتركيز على العلاقة مع الماضي/ التراث هو مشكلة تأويلية خاصة بجيل لم يعد الآن قادرًا على تحمّل أعباء السؤال الفلسفي الحالي، نعني السؤال الكبير عن طبيعة العلاقة بين الهوية والحرية. وهو سؤال ما فتئ يُطرح منذ ثمانينات القرن الماضي في جميع الثقافات القادرة على الكونية. إنّ أسماء “فوكو وريكور وتايلور ورورتي ودريدا وجوديث بتلر.. الخ”. كلّها تشير إلى أسئلة حارقة حول هوية الشخص البشري وجنسه ونمط انتمائه إلى نفسه، ولكن في ضوء تقنيات السلطة أو السيادة أو الهيمنة التي تشكّلت في نطاقها. ليس هناك قطيعة مع الماضي في أيّ ثقافة من الثقافات الكبيرة. بل فقط تنشيطات وتأويلات وحفريات وتفكيكات واختراعات جديدة لمصادر أنفسنا بحسب إرادة الحياة التي تحرّك كل نوع اجتماعي في كل مجتمع. والإسلام ليس “هوية ماضوية تقيّدنا”، بل هو جملة من مصادر النفس يمكننا ومن حقّنا أن نعيد العمل الإبداعي عليها بحسب ما تدعونا إلى ذلك قيمة الحرية التي نمتلكها. وفي الواقع لا توجد قيود هووية إلاّ في أذهان العاجزين عن التفكير بأنفسهم.
وإذا قطعنا مع الماضي، من سيعشق لغة الضاد؟ ومن سيحفظ المعلّقات؟ ومن سيعرف أبا جهل؟ ومن سينصت للقرآن؟ ومن سيحبّ محمّدًا الإنسان؟ ومن سيدافع عن عائشة؟ ومن سيتشوّق إلى مكّة؟ ومن سيعتذر للحلاج؟ ومن ستمتعه خمريات أبي نواس، أو زهديات أبي العتاهية؟ ومن سيزور المعري في محبسيه؟ ومن سينتصر لمحنة ابن رشد؟ ومن سيذكر الأيوبي؟ ومن سيحكي ألف ليلة وليلة مرة أخرى؟ ومن سيفهم ابن عربي؟ …هذه ليست قطعًا متحفية متنافرة بل مساهمتنا في التأريخ الأخلاقي للنوع البشري، وعلامات على طريق آخر إلى أنفسنا لم نستعمله إلى حدّ الآن، من فرط ضجيج المتعصّبين وصراخهم. لن تقبلنا الإنسانية ونحن نجلس إليها بأيدٍ فارغة من الذاكرة.
كيف يمكن أن تساهم الفلسفة في النهوض، حتى نتحرر من حراس الهوية والذاكرة؟
علينا أوّلاً أن نقبل بوجود الفلسفة باعتبارها شريكًا تاريخيًّا وروحيًّا كبيرًا لثقافة العقل في مجتمعاتنا. ومتى صار شبابنا يتفلسف من دون أيّ خجل أخلاقي أو عقدي، فإنّه يمكن للفلسفة عندئذ أن تكون قد ساهمت في النهوض بفكرة الإنسان في ضمائرنا. أمّا “التحرر من سلطة حرّاس الهوية والذاكرة” فهو قضية وقت لا غير. إنّ قيمة الحرية تنمو بشكل لا يُصدّق، وكلّ المجتمعات الآن تكتشف فجأة أنّ فئة الشباب لديها قد تخطَّت عتبة الطاعة الحمقاء للمؤسسات الرمزية التقليدية بطريقة مثيرة ولامعة. على المفكّرين أن يتخلّوا عن أطماع الريادة على أجيال جديدة لا تؤمن بهم، ولا ينتمون إلى عالمهم الذي تبرّوا عليه.
إلى حدّ الآن تحوّل التفكير إلى صيد محموم للثورة، لكنّ الثورة لم تقع في أيّ فخّ مفهومي جيّد؛ أي قادر على اختراع وعود كبيرة للذين ثاروا. لكنّ المثقف ما بعد الهووي لا يقود، إنّه لم يعد نخبة، بل يرافق الشعوب نحو مصيرها الجديد، وهو “جديد” في معنى أنّه لا يقبل أيّ وصفة جاهزة عن المستقبل. وبهذا المعنى فالفلسفة لا “تحرّر” بالضرورة، فهي لا تنحصر في مهمّة “التنوير” إلاّ عرضًا. الفلسفة يمكن أن تخلق جيلاً جديدًا من الأحرار، وهذا يتطلّب تمارين مريرة ومؤلمة ومزعجة في تدبير الذاكرة، وفي تدبير الهوية. وذلك يعني استعدادًا راسخًا للانتماء الحرّ إلى مصادر أنفسنا، من دون المرور بوصاية أحد. ومتى كان التفكير الحرّ لا يسيء إلى أحد.

المسكيني: دور الفيلسوف أن يصاحب الآلام الكبرى، لا أن يشرّع لها

أسئلة الهوية والحرية.. والزمان !

"علينا أن نقبل بوجود الفلسفة باعتبارها شريكًا تاريخيًّا وروحيًّا كبيرًا لثقافة العقل في مجتمعاتنا"، هكذا يؤكد المفكر التونسي فتحي المسكيني، لأنه "متى صار شبابنا يتفلسف من دون أيّ خجل أخلاقي أو عقدي، فإنّ هذا سيساهم في النهوض بفكرة الإنسان في ضمائرنا.. فالفلسفة يمكن أن تخلق جيلاً جديدًا من الأحرار، وهذا يتطلّب تمارين مريرة ومؤلمة ومزعجة في تدبير الذاكرة، وفي تدبير الهوية. وذلك يعني استعدادًا راسخًا للانتماء الحرّ إلى مصادر أنفسنا، من دون المرور بوصاية أحد".
الدكتور فتحي المسكيني
الدكتور فتحي المسكيني
لا يفتأ المفكر التونسي فتحي المسكيني أن يوجِّه سهام نقد قلمه اللاذع نحو الهوية التي صنعتها الدولة القومية الحديثة، منخرطًا في رحلة عميقة لا يكل صاحبها عن التأمل والتساؤل والبحث عن تلك الذات المتجردة من الرواسب الهووية الموروثة المتراكمة!.
أستاذ الفلسفة بجامعة تونس يقرر بوضوح قاطع كما في كتابه (الكوجيطو المجروح.. أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة) أن الهوية “اختراع ثقافي خطير، طورته كل الثقافات وبخاصة تلك التي لم تعد تمتلك كنزًا خلفيًّا أو مخزونًا احتياطيًّا لنفسها غير حراسة الانتماء بواسطة الذاكرة الممنوعة من التفكير”. ينادي ويدعو دائمًا إلى أن تكون (الحرية أولاً) “حرية الذات، وحقها الحيوي الكوني في الانتماء الجذري للنوع الإنساني، بعيدًا عن أسئلة الهوية المسبقة التي تلاحقها وتكبلها، وتشكلها كما تشاء”. ولذلك حيا في مقدمة كتابه (الهوية والحرية .. نحو أنوار جديدة) ذلك الشاب الطلائعي الذي قال يومًا ما:”نعم.. الحرية قبل الهوية”.
يقول فتحي المسكيني عنه نفسه بأنه “جزء من جيل حاول أن يغيّر قبلة الفلسفة في تونس” وجد نفسه منذ العام 1991 مدفوعًا إلى قراءة هيدغر، ثم الاشتغال عليه في رسالة دكتوراه كان موضوعها يرتكز على طريقة هيدغر في اعتماد مسألة الزمان أفقًا تأويليًّا لطرح مسألة المعقولية في التقليد الغربي.
صدرت له مؤلفات فلسفية، كـ: (فلسفة النوابت)، و(الهوية، والزمان)، و (نقد العقل التأويلي)، وأخيرًا صدر له كتاب عن الثورات العربية في (سيرة غير ذاتية)، كما صدرت له عدة ترجمات فلسفية من أبرزها، (الكينونة والزمان) للفيلسوف الألماني “مارتن هيدغر”، الذي فاز أخيرًا بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن فرع الترجمة، كما صدرت له عن دار جداول أيضاً، الترجمة العربية الأولى لكتاب الفيلسوف “إيمانويل كانط” (الدين في حدود العقل).
مجلة (المجلة) حاورت فتحي المسكيني، وساءلته عن أهم أفكاره ورؤاه، عن الثورات العربية وتداعياتها، وعن الذات والهوية، ومهمة الفلسفة وأسئلتها، وعن العلاقة بالماضي والتراث، فكان هذا الحوار…

تونس .. دستور جديد، ومرحلة جديدة

بعد مخاض عسير أقر المجلس الوطني التأسيسي الدستور الجديد لتونس، هل يمكننا القول بأن الثورة قد عادت إلى مسارها الصحيح؟
قبل الحكم على مسار الثورة علينا بادئ ذي بدء أن نبتهج بمساحة الأمل التي تمّ بناؤها في أفق شعبنا الجديد. نحن بنينا مساحة أمل أو منطقة رجاء، على الرغم من أنّه لا أحد يمتلك ضمانات مسبقة عمّا يمكن أن تسفر عنه.
طبعًا، كلّما أقدم شعبٌ على كتابة دستور لذاته الجديدة فهو خبر سارّ. إنّه بذلك قد أعطى شكلاً لصيروته، وخرج من مرحلة الغموض الخطيرة، حيث يمكن لأيّ كاتب سيّئ أن يفرض علينا قصّة لم يعشها أحد، ورغم ذلك نحن مطالبون بالانتماء إليها بلا رجعة.
ولكن علينا أن نسأل عندئذ: هل كان للثورة “مسارها الصحيح” المتفق عليه من قبل؟ – لا يبدو لي أنّنا عدنا إلى أيّ منهاج مُعدّ سلفا للثورة. ما وقع وقع.. ونحن أمام ما سمّاه هيدغر ذات مرة ّ “واقعة” الكينونة الخاصة بنا. نحن لا نوجد كما نريد، بل “نقع” أي نحدث وفقًا لشروط تاريخية لا نختارها وربما هي التي اختارتنا بقطع النظر عن كل شواغلنا الهووية الرسمية أو المستقرة. – إلاّ أنّه يمكننا المجازفة، وهي هنا مجازفة مأمولة- بأن نقول: إنّ كتابة دستور جديد في أفق أيّ شعب من الشعوب العربية الحالية هو حدث روحي متميّز جدّا، مع أنّه لا أحد يمتلك طبيعة النتائج السياسية أو حتى الأخلاقية التي ستنجرّ عن ذلك. نعم، كتبنا دستورًا جديدًا، ولكن ما علاقة ذلك بالثورة؟ “من” ثاروا ربّما لم يصلهم نبأ الدستور بعد. أو هو لم يشغلهم إلاّ عرضًا. وبعبارة قلقة: إنّ الذين كتبوا الدستور هم “النخبة” التي لم تشارك في الثورة، لكنّها وجدت نفسها ملزمة أو محكومًا عليها (أخلاقيًّا) بأن تحاول ترجمة فكرة الثورة التي حرّكت الشعوب سنة 2010 -2011 إلى واقع دستوري أو “شرعي” مناسب أو منصف أو لائق بالشهداء من أجلها. ولكن هل أنّ ذلك كاف لإعادة الثورة إلى “مسارها الصحيح” ؟ ثمّة أمل في دولة مدنية ديمقراطية تمّ تحويله إلى خطاب دستوري، والآن علينا أن ننتظر تحويله إلى واقع مواطنة ونموذج عيش وسيرة يومية للحرية.
وعلينا أن نذكّر بأنّ الشباب لم يثر من أجل نصّ أو أثر أدبي، يبدو أنّه سيّئ التحرير. وهو يتساءل الآن: “من” كتب الدستور ؟ هل تمّت استشارة الفلاسفة والشعراء والفنانين؟ وعلى كل حال الثورة لا يمكن أن تُختَزل في كتابة دستور كأنّنا بلد بدائي لم يعرف من قبل ما معنى مدوّنة قانونية.
كيف ترى ملامح المرحلة القادمة لتونس بعد إقرار الدستور؟
في الواقع، لا تغيّر الشعوب من ملامحها باليسر الذي يتصوّره “المؤرّخون”، نعني كل الذين تعوّدوا تحويل الوجود التاريخي إلى خبر أو إلى أحداث يمكن سردها. وعلى كلّ، نحن لا نملك اليوم صيغة جاهزة عن “المرحلة القادمة” سواء لتونس أو للبلدان العربية الأخرى. ثمّة توجّس متبادل بين الشعوب وحكّامها، من أن يكون الحديث عن الدستور “حديث خرافة يا أمّ عمرو” كما قال المعري ذات قصيد. نحن نعلم منذ مدة أنّ كتابة دستور “جديد” أو “جيد” لم يكن أبدًا مشكلاً حاسمًا في وجود أو تسيير الدولة الحديثة لدينا. ثمّة مسافة مزعجة ولكن عميقة بين دستور جيّد ودولة جيّدة، نعني بين تصوّر الحكم وعمليّة الحكم. والحاكم العربي ظلّ إلى حدّ الآن، سواء بالثورة أو بغيرها، بالانتخاب أو بالتوريث، بالتداول “السلمي” على السلطة أو بالانقلاب، ظلّ حاكمًا هوويًّا. نعني حاكمًا أداتيًّا وجاهزًا من حيث ذهنية الحكم ومنطقه، قبل أيّ تعاقد دستوري أو قانوني مع الشعوب الذي يحكمه. ولذلك فإنّ حدث “إقرار الدستور” على جلالته وخطورته هو لا يفتح على أيّ تونس جديدة، بل فقط على وعود سياسية لا أحد يملك ضمانة كافية لتحقيقها. وأفضل ما يجدر بنا هو أن نعمل على تطوير مفهوم جديد للمستقبل، لا يمرّ بالضرورة بأحلام الحاكم الهووي حولنا أو حول سلطته علينا. ربما لأوّل مرة نحن نشعر بأنّ الدولة الحديثة مشروع هشّ ومؤقّت في أفقنا. وعلينا أن نتوقّف قليلاً عند الأخطار غير المسبوقة التي يمكن أن تطرأ عليها في أي لحظة. ومن ثمّ فإنّ المرحلة القادمة لن تكون من طبيعة هووية، أي أنّها لن تنفّذ أيّ برنامج عقدي أو مذهبي أو طائفي جاهز. بل فقط، من طبيعة حيويّة، أي مرحلة تدريب المواطن على السكن الكريم في وطنه حتى يكفّ عن الشعور بأنّ الموت في بلد الهجرة أخفّ حملاً على النفس من الحياة في بلاده. لا يمكننا أن ننتظر من دول المستقبل غير أشكال محتملة من الحياة، لا غير.
عهد الفرديات والشخصيات الكبرى (الملهمة، القائدة، المسدّدة،…) قد ولّى. ولا ينبغي أن نسمح لأحد بأن يرى المستقبل بدلاً عنّا.
أجواء احتفالية في المجلس الوطني التأسيسي بعد المصادقة على الدستور التونسي الجديد
أجواء احتفالية في المجلس الوطني التأسيسي بعد المصادقة على الدستور التونسي الجديد
ثمّة مسافة مزعجة ولكن عميقة بين دستور جيّد ودولة جيّدة
هل تتفق بأن حركة النهضة قد استوعبت درس مصر فعلاً.. هل سيدوم هذا الاستيعاب طويلاً؟
وما هو “درس مصر”؟ نعم، هناك إرادة قوية لتصحيح مسار الثورة وإعادتها إلى الجماهير التي قامت بها أو حلمت بها. ولكن إلى أيّ مدى يجوز لنا أن نعوّل على الجيوش كي تساعد الشعوب على استعادة حق الناس في الحياة أو حقهم في الحرية ؟ – كانت ثورة مدنيّة رائعة، على غرار الثورة التونسية. قام بها غاضبون، شباب عاطل أو معطّل عن العمل، متعلّم ولكن بلا أفق نجاح شخصي، علاوة على ضغوط عولمة ثقافية، تفتح الأبواب باستمرار أمام تدمير البنى المعيارية التقليدية للذات والجسد والهوية والجندر والجنس وطرق المواطنة وسير الحياة الخاصة،… ثمّ صعد الإسلاميون إلى سدّة الحكم، وعادوا فجأة إلى الواجهة بواسطة انتخابات الهوية، التي لا تملك من الوجاهة المدنية للفوز بآمال المواطن الحديث لدينا سوى وعود الجماعة ورهبة العدد. طبعًا، كان فوزًا حقيقيًّا، نعني نجح في استغلال آليات النجاعة السياسية الحديثة، في خليط مثير بين الدعوة الدينية والدعاية الحديثة. ولكنّ الشعوب شعرت في شطر كبير منها، أنّها خُدعت، وأنّ ما كانت تنتظره من الثورة قد لبس لبوسًا آخر. طبعًا، ربما أخطأ الإسلاميون في الشروع الفوري في أسلمة المجتمع، وعندما وجدوا أنفسهم أمام امتحان الحكم، لم يتخلّوا عن التقنيات الدعوية التي تربّوا عليها، بما في ذلك تقنية أخونة الموت، واستعماله كأداة ضغط قصوى على المنافسين السياسيين. لكنّ لبّ المشكل -في تقديري- ليس الدين أو الاستعمال العمومي للدين، عند الوصول إلى السلطة. بل أخطر من ذلك هو تصوّر الدولة. هل الدولة هي غاية في حدّ ذاتها، نعني شكل الحياة المناسب للشعوب أم هي مجرّد جهاز دنيوي في خدمة دعوة ميتا -تاريخية وميتا- أخلاقية، على الشعوب أن تستجيب إليها، وإلاّ اتّهمت بالخروج عن مطلب الهوية، وتعريض شرط الانتماء إلى التلف التاريخي، وفي آخر المطاف المروق عن الدين والسقوط في أحابيل الإلحاد السياسي الحديث.
لكن بشكل أكثر تحديداً.. ماهو الفرق الذي تراه بين حركة النهضة التونسية، وجماعة الإخوان المصرية؟
ربّما يكمن الفرق بين حركة النهضة التونسية وجماعة الإخوان المصرية في هذا الفاصل الرفيع بين “الحركة” السياسية و”الجماعة” الدينية. يبدو أنّ الإسلاميين في تونس نشطاء حركيون تتلمذوا في الأغلب الأعمّ، بشكل صريح أحيانًا، وعلى أنحاء خجولة أحيانًا أخرى، على المدرسة السياسية التونسية بكلّ أطوارها الثرية: من حركة إصلاح وعلماء زيتونيين ومثقّفين علمانيين، وحكم بورقيبي، وتجارب اليسار وحركة طلابية وأساتذة علوم وإنسانيات من طراز “غربي” رفيع،.. وبهذه المواصفات التاريخية هم مختلفون عن “الإخوان”، وإن كان الشبه الدعوي الإسلاموي قد يسهّل نقدهم السياسي والتخلص الأخلاقي منهم كشركاء في مرحلتي ما قبل الثورة (مقاومة الدكتاتورية)، أو ما بعد الثورة (الدسترة الجديدة للدولة المدنية وتجربة الحكم ما بعد الدكتاتوري). وهكذا إذا كان ثمّة درس مصري في هذا الوقت (ما بعد تجربة الحكم) فهو فهم النهضويين بأنّهم أقرب إلى الليبراليين منهم إلى أيّ حزب ديني جهادي. وبالتالي عليهم أن يعيدوا النظر في طريقة الحكم والانتقال من طور التحوّز على آلة الحكم إلى طور المشاركة فيه بدون خسائر تاريخية. هل سيدوم هذا الموقف؟ – نعم. هم ليس لهم أيّ خيار آخر، إذا ما أرادوا أن يكون لهم مستقبل سياسي في تونس.
المشكل مع الإسلاميين في كل مكان هو كونهم يبحثون عن “مستقبل” في بلدانهم. والحال أنّ هذه الهشاشة التاريخية لا تسمح لهم بتأسيس أيّ شيء طويل الأمد. والعكس هو ما ينبغي القيام به: أن يبحثوا عن مستقبل لبلدانهم بكل ما يمكن استلهامه من تجارب الإسلام العريقة. عندئذ يؤسسون.

الحرية أم الهوية؟ !

قلت في كتابك “الهوية والحرية” بأن الحرية قيمة خطرة جدًا إذا لم تتحول إلى فن للمشترك، برأيك بعد ثلاث سنوات من مرحلة الربيع العربي، هل فشل الثائرون أو “بعض المنتصرين” في استثمار لحظة وقيمة الحرية؟
لا يبدو لي أنّ “الثائرين” قد فشلوا، بل العكس هو الذي وقع: إنّ النخب السياسية هي التي فشلت في استيعاب ما وقع من “ثورة”، وعلينا أن نقول إنّهم لم يكونوا جاهزين لواقعة الثورة، بل فاجأتهم كما فاجأت الحاكم الهووي، الذي كان يغطّ في السبات الدكتاتوري الطويل الأمد. فمن قام بالثورة لم يكن في الغالب مسيّسًا، نعني محترفًا. بل كان جزءًا من كثرة من الذوات الحرة التي تجرّأت على أن تذهب إلى أبعد من الخطّ الهووي للدولة الدكتاتورية: خطّ الفقر، خطّ السكوت، خطّ التعبير، خطّ العقل، خطّ التغيير،.. وما دفع الشباب الثائر إلى التمرّد على خطّ الحكم السائد لم يكن دافعًا سياسيًّا بالضرورة، نعني هو لم يثر استجابة لدعوة دينية أو نداء حزبي، بل ثار بدوافع حيوية: إنّ شكل الحياة تحت الحاكم الدكتاتوري صار أمرًا لا يُطاق، وينبغي التمرّد عليه. الحرية قيمة حيوية، لا علاقة لها بالضرورة بأيّ حسّ هووي، مهما كان نبيلاً.
ولذلك، نعم، هناك ارتباك في استثمار لحظة الحرية، فهي لحظة وجديّة غير مسبوقة، شعر بها الناس على حين غرة، بعد أن رأوا أنّ أبناءهم من الشباب الحرّ، النضر، المستبشر بذاته الجديدة، الحديثة، الخاصة، الشخصية جدّا،…قد نزل إلى الشوارع وتجرّأ على شتم الحاكم أو السخرية منه، أو مطالبته بالرحيل. ثمّة براءة فظيعة، براءة وجودية، رافقت تجربة الذات إبّان الثورة. براءة الشبان الذين ينادون بإسقاط النظام دون أي تصوّر واضح لمعنى سقوط الدولة، أو كتابة دستور جديد، أو تغيير فنّ الحكم. وإذا كان ثمّة “فشل” فهو ليس فشل الثائرين، فعلينا الاعتراف بأنّ الثائرين قد انتصروا. إنّ قيمة الحرية قد صارت جزءًا من التاريخ الحديث للمواطنة لدينا. ولذلك فإنّ الذين فشلوا هم أعضاء النخب السياسية التي ادّعت الأبوّة على الثورة، وحوّلتها إلى مهرجان خطابي للأحزاب أو للحكومات الإجرائية المحايدة جدًّا. ومن سخرية الأقدار أنّ الشعوب التي ثارت صارت تطالب بتشكيل حكومات “مستقلة” و”محايدة” لتحقيق أهداف الثورة. ولكن تطالب ذلك ممّن؟- بالضبط، من نخب سياسية شعرت الشعوب أنّها منشغلة بأهداف أخرى للثورة، غير الأهداف التي نادى بها الشباب الثائر، من دون أن يكون جزءًا من أيّ جهاز ثوري سابق.
نحن لم نتمرّن على التفكير معًا إلاّ منذ وقت قريب. وإذا كان درس الثورة ينحصر في أنّنا بدأنا نعرف بعضنا لأوّل مرة، بعد انقشاع سحابة الدولة الدكتاتورية، فهذا يُعدّ هديّة أخلاقية رائعة من الشباب الذي تمرّد.
حييت شهداء الثورات العربية قائلاً :”لشهداء الكرامة الذين قالوا يوماً ما: نعم الحرية قبل الهوية”، هل قالوا الحرية أولاً بالفعل، أم أنهم فقط أجلوا سؤال الهوية؟
إنّ الثائر الذي قال : “نعم الحرية قبل الهوية”، لا يضرب إحداهما بالأخرى، أو يثبت الأولى كي يبطل الثانية، بل فقط هو يعدّل وتر الحياة في قلبه. إذْ تراهن الدول غالبًا على إقناع المحكومين بأنّ ثمّة شيئًا متعاليًا على حيواتهم الخاصة أو الحاضرة أو الدنيوية، وأنّ هذا التعالي هو مصدر كل شرعية عميقة لتبرير وجودهم في ظل الدولة. فهم ليس لهم من “هوية” ينتمون إليها أن يحتموا بدلالتها إلاّ بقدر ما يطيعون الحاكم باسم شيء يتعالى على وجودهم تعاليًا نهائيًّا وكلّيًّا. كانت الدولة القومية تستمدّ شرعيتها من أن “لا شيء يعلو على صوت المعركة”.
مع من ؟- مع عدوّ خارجي، لا نهائيّ، لا مجال لأيّ تصالح تواصلي معه. ولذلك كانت دولة هووية بامتياز. لا هوية لأيّ محكوم، أي لا مواطنة لأيّ مواطن، إلاّ باسم منطق الدولة التي تحكمه وفي حدود تقديمها لنفسها. لقد بدا الشخص الفردي المعاصر في أفقنا وصفة باهتة من مجرّد “مواطن” دولة ما (بكل ما يعنيه ذلك من التزامات عقدية وقومية وقانونية)، ولم يصبح بعدُ في أيّ مكان، ولا حتى ثورات “الربيع العربي”، ذاتًا، أي فردًا حرًّا قادرًا على المواطنة النشطة. “الحرية قبل الهوية” تعني الشخص قبل المواطن، أو الذات قبل المحكوم.
أخطأ الإسلاميون في الشروع الفوري في أسلمة المجتمع، وعندما وجدوا أنفسهم أمام امتحان الحكم، لم يتخلّوا عن التقنيات الدعوية التي تربّوا عليها، بما في ذلك تقنية أخونة الموت
طبعًا، يظنّ البعض أنّ مجرّد تغيير التسمية من معجم “الرعيّة” إلى معجم “المواطنة” هو خطوة عملاقة لتغيير ذهنية الحكم في البلاد العربية، لكنّ خيبة الأمل من ذلك كبيرة: فمن جرّب الخضوع (وليس الطاعة) للحكم الدكتاتوري سوف يكتشف من دون جهد يُذكر أنّ الدولة “الحديثة” لا تفرّق كثيرًا بين المعاجم السلطوية، ومن ثمّ أنّ تبرير الحكم ليس جزءًا من منطق الحكم. وعليه فإنّ طبيعة الحكم لا تتغيّر بمجرّد تغيير الخطاب.
يمكن أن نقترح الفصل بين معارك الحرية ومعارك الهوية. ولكنّ هذا الفصل لا يغيّر من خطورة المشهد الذي يخلّفه الشهداء؛ أي الذين تقتلهم آلة الدولة بدون أيّ عداوة شخصية معهم سوى أنّهم يضعون وجود الدولة الحديثة موضع تهديد جذري. على الدولة نفسها أن تقتنع بأنّ التدخّل في هوية الناس لأسباب سياسية ليس عملية مضمونة العواقب دائمًا. إذ يمكن أن يحدث تصادم بين هوية المحكوم وبين هوية الحاكم. ولذلك فمن يثور ضدّ الحاكم الهووي، الذي يستمدّ شرعية حكمه من فرض هوية جاهزة على المحكومين، هو لا يثور ضدّ فكرة الهوية بإطلاق، بل ضدّ نمط سائد ومهيمن وقاهر من “التهويّ” أو من “تهوية” الناس في قالب هووي معدّ سلفًا من طرف أجهزة الدولة. ولا يهمّ إن كانت تلك الدولة دينية أو مدنية أو عسكرية. كلّ ما يُفرض على حرية الناس في اختيار شكل الحياة القابلة للحياة بأنفسهم هو هووي، أي قائم على استعمال أداتي وخارجي وقسري لحياتهم الخاصة باعتبارها مجرّد جهاز عمومي للدولة. ولا ضرّ إن سمّيت ذلك عقيدة أو قومية أو شخصية تاريخية أو شعبًا أو حزبًا أو قبيلة أو عائلة حاكمة أو مجلسًا عسكريًّا…ولذلك حين يقول أحدهم :”الحرية قبل الهوية” هو لا يؤجّل سؤال الهوية بل يريد إعادة طرحه على نحو مغاير. إنّه يريد رأسًا أن يصبح مسئولاً عن نفسه، عن طريقة تذوّته بين الذوات الحرة، التي تؤثّث العالم المعيش المعاصر. نعم، إنّ الحرية هي “أوّلاً بالفعل”، وليس مجازًا. لكنّ ذلك ليس ضدّ الهوية بالضرورة. بل يمكن أن يكون، على العكس ممّا نتوقع، شرطًا أخلاقيًّا وروحيًّا فذًّا لاختراع الانتماء والدخول في تملّك حيّ لمصادر أنفسنا العميقة.
في ذات السؤال، ربما ناقشت هذه القضية كثيرًا في كتاباتك، لكن كيف يمكن أن أرفع شعار الحرية مجردًا مفصولاً من “هوية ما” ، ألا ترى بأن ذلك سيقود إلى أمرين إما شعار هلامي لفظي لا معنى له، أو مجرد أداة لحشد سياسي يكمن الشيطان في تفاصيلها التي ستعلن لاحقًا؟
لا وجود لحرية بلا هوية. لكنّ ما نسمّيه “هوية” يمكن أن يكون مدعاة لخلط كبير أو ريبة لا شفاء منها. الهوية كلمة جدُّ نبيلة، استعملها المترجمون العرب القدامى في مقابل كلمة “الكينونة” عند اليونان. “هو” أي “موجود”. ولا حرية لكائن لا وجود له. وابن عربي يطلق الهوية على “الحقيقة في عالم الغيب”. لكنّ ما ينبغي أن نحتفظ به من معنى أيّ هوية هو كونها هي “ذاتها” وليست شيئًا “آخر”. وبالتالي هي مختلفة عن مجرّد “الأنانة” أي عن مجرد “قولنا أنا” حسب تعبير ابن عربي. من يقول أنا لا يقول بالضرورة شيئًا عن هويته. بل فقد هو يزعم أنّه يملك نفسه أو يختص بها. وهناك معركة كبيرة ينبغي أن يخوضها من أجل الانتماء الأصيل إلى ذات نفسه. الهوية إذن معركة خاصة، شخصية وعميقة، وليست أرشيفًا للتوريث، قد تعمد جهة ما إلى فرضه على الناس وممارسة سلطة شرعية باسمه عليهم. وهنا نقرّ بأنّنا لا نتحرّر إلاّ داخل وفي ضوء تراث هووي عميق هو الذي يشكّل ما سمّاه الفيلسوف الكندي المعاصر -تشارلز تايلور- “مصادر النفس”. بل كل لحظة أو قيمة حرية هي تُقاس بمدى تجذّرها داخل جملة معقودة من مصادر الذات.
مظاهرة لحزب التحرير السلفي بتونس
مظاهرة لحزب التحرير السلفي بتونس
“التطرف الديني” ليس مفصولاً عن طبيعة العلاقة الحديثة التي تبنيها الدولة مع الأفراد
لكنّ ذلك لا يشرّع لأيّ سيطرة هووية على أحد. بل ثمّة مفارقة هنا: إذ كيف يصبح ما يعتبره أيّ فرد هويته العميقة أو الخاصة، كيف يصبح وسيلة هووية لإخضاع ذاته إلى مرجعية أو سلطة هووية خارجة عنه؟ هذا هو الخلط الهووي الأخطر الذي تستثره الأجهزة الهووية بعامة (أكانت دولة أو جماعة أو مؤسسة أو طائفة أو قبيلة أو حزبًا أو جيشًا،…) لتحويل وجود الأفراد إلى أعداد سياسية أو قانونية قابلة للاستهلاك الإجرائي للحكم.
نعم، يمكن أن تكون الحرية “شعارًا لفظيًّا هلاميًّا بلا معنى”. ولكن في فم الذين لم يستكملوا بعدُ أيّ تحويل ذاتي لهويتهم. علينا أن نفرّق بين هوية جاهزة موروثة ورسمية، وبين هوية ناجمة عن عمل عميق على الذات لتطويرها. وبالتالي نحن لن نتحرّر أبدًا ما دمنا نعوّل على هويات جاهزة لأنفسنا، ولم نشارك في أيّ لحظة في تشكيل وتيرتها. كذلك، يمكن للحرية أن تكون “مجرد أداة لحشد سياسي يكمن الشيطان في تفاصيلها التي ستعلن لاحقا “. ولكن في يد الذين لم يثوروا أصلاً من أجل حريتهم، بل استولوا على واقعة الحرية وسرقوها من قلوب أصحابها، وحوّلوها سريعًا إلى أداة هووية تحت الطلب. وهو ما قامت به الحركات الإسلاموية إزاء الثورات العربية الراهنة.
قلت بأن العلمانيين يستخدمون الحرية ضد الهوية، والسلفيين يستخدمون الهوية ضد الحرية، في ظل وضع مريب مسؤولة عنه “الدولة الحديثة” .. إذًا ما الموقف الذي تتخذه في هذه المعادلة المتداخلة ما بين شرائح المجتمع والدولة؟
ليس ثمّة وصفة جاهزة للحكم بين الحرية والهوية. وعلينا أن نكفّ عن التفكير الماهوي الذي لا يطمئن إلاّ إلى إمّيات قطعية مريحة. “إمّا” كذا و”إمّا” كذا. ومواصلة النقاش على أساس الفرقة الناجية والحجة الدامغة والرأي اليقين…هي جزء لا يتجزّأ من معجم الاستبداد الذي لا يفكّر إلاّ بناءً على مفهومات الصفوية والولاء المطلق، والزعامة الراشدة، وتهم التخوين والعمالة والمؤامرة… إنّ التفكير في هذه المسائل الشائكة هو أقرب إلى تفاوض عسير مع المستحيل، حتى يصبح الفهم المشترك ممكنًا ومستساغًا ومطلوبًا لذاته. قلنا إنّ قيمة الحرية لا معنى لها إذا هي لم تنجح في التحوّل إلى فنّ للمشترك. هذا هو بيت القصيد: نحن لا نشعر أنّ الفرقاء الهوويين والعلمانيين مستعدّون كفاية لتبادل الحرية، أو لتبادل الهوية بناءً على آليات اعتراف ديمقراطية. على الجميع أن يقتنع، وهذا بحدّ ذاته صعب، ويتطلب دربة أو مراجعة أخلاقية خاصة، أنّه “لا أحد”، أنّه “فلان” حديث، وليس ممثّلاً شرعيًّا ووحيدًا لجهاز انتماء متعال ولا نهائي. وبالتالي أنّ الحقيقة هي مجرّد ادعاء صلاحية من حق أيّ طرف أن يرفعه، ولكن ليس من حقه أن يحتكره على أحد. ذلك يعني أنّ الدين مثلاً ملكًا للإسلاميين، كما أنّ الحداثة ليست حكرًا على العلمانيين. وسبب التداخل هو نمط الدولة الحديثة نفسها، وليس خطأ أي طرف على حدة. فمن الخطأ أو الغرور أن يقدّم الطرفان العلماني والإسلامي نفسيهما وكأنّهما اللاعبان الأساسيان أو الوحيدان على ركح النقاش الحاد حول الحرية والهوية. فهما يغفلان أمرًا حاسمًا ألا وهو أنّ الذي يدير النقاش ويتحكّم فيه ويغذّيه ويستثمره هو منطق الدولة الحديثة، وليس الدين أو العلمانية.
إذن أنت تلقي باللائمة والمسؤولية على “طبيعة” الدولة الحديثة؟
نعم، المشكل هو طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة. وليست الثورات الراهنة غير إعادة ترتيب واسعة النطاق لحريات المجتمع المدني بإزاء الدولة. وبالتالي فإنّ بروز التوجّسات الهووية هو نتيجة، وليس سببًا للثورة. لقد تمّ ضرب من الاستفزاز الهووي لقيمة الحرية من أجل الحدّ من الخسائر التاريخية التي ستنتج عن الثورة، حين تتعدّى إسقاط الأنظمة إلى خلق نماذج جديدة للعيش في أفق ذواتنا المعاصرة.
وعلى كلّ ليس هناك موقف جاهز إزاء المستقبل. نحن نعمل منذ مدة على ضرب من اللاّمسمّى. ونحن إلى حدّ الآن لسانٌ سيّئ حول أنفسنا.
هناك ارتباك في استثمار لحظة الحرية، فهي لحظة وجديّة غير مسبوقة، شعر بها الناس على حين غرة.. فثمّة براءة فظيعة، براءة وجودية، رافقت تجربة الذات إبّان الثورة
بعد الثورة، أخذ الإسلاميون ينصبون قِدرَ الهوية في كل مكان، وطفقوا يستخدمون الذخيرة الهووية للجموع الفقيرة ضدّ من؟ – ضدّ “العلمانيين” ومن هم هؤلاء ؟ – إنّه الزميل في الجامعة، أو في العمل، أو في الاختصاص، وفي بعض الأحيان صديق العمر أو الأخ أو الأخت أو الأم أو الأب.. من المسئول عن هذا الانفلات الهووي في فضاءات هشّة ومؤقّتة جدّا من النقاش العمومي حول ما “وقع” ولا أحد يملك وصفة سعيدة عنه؟ كيف أصبحنا نفرّق بين ذواتنا الحديثة المتصدّعة أصلاً، بهذا اليسر المريب؟ وكيف يا ترى نقيس المسافة بين هويتين؟ هل يمكن أن نقيس مساحة العزلة داخل نفس الهوية؟ لقد تحوّل التفاوض على الهوية إلى برنامج أخلاقي للذات. وهذا عارض على هشاشة وجودنا المعاصر. فهل العلاقة الشخصية مثلاً علاقة هووية أم لا؟ أين يقف الشخص وأين تبدأ الهوية ؟ لقد نصبوا حدودًا هووية بين أجساد لم يفرّق بينها السجن ولا رصاص الشوارع الدكتاتورية، ثمّ من يحقّ له أن يراقب صيرورة الهوية لدينا؟ وإلى أيّ حدّ يمكننا التعامل مع أنفسنا بوصفنا كائنات مصنّفة بلا رجعة؟ وهذا الشذوذ الهووي أخطر ما فيه هو أنّه سريعًا ما يقنع الهوية بأن تعيش من جروحها، وفجأة تتحوّل مهمّة الحياة الحرّة إلى نافلة حديثة.
ثمّة تبادل هووي يقع في كل المجتمعات التي بلغت شوطًا محمودًا من الصحّة الروحية. ولقد نجح الإسلام الكلاسيكي في بناء هوية غير عرقية وغير إقصائية، لكنّ ما نفعله بواسطة الإسلام السياسي المتشدّد يمكن أن يجرّدنا آخر الأمر من ذلك المكسب التاريخي الكوني البعيد اليوم. ومشكل الهوية يبدو أنّه لا ينحصر لدينا في نزاع الاعتراف، كما هو الحال مع الهويات الإثنية أو الثقافية الغربية، بل في نزاع محموم على السلطة.
يؤكد العديد من العلمانيين العرب أن الديمقراطية إذا لم تقم على أسس ليبرالية فإنها سوف تناقض نفسها، وتؤدي إلى نتائج ديكتاتورية، وثيوقراطية، أولاً ما رأيك في هذه النظرية (أن الديمقراطية يجب أن تمارس وفق القيم الليبرالية الحديثة)، ثم من ناحية أخرى ألا ترى بأن “العلماني” هنا قد استعان بـ”هوية” ليحجم بها إطار “الحرية”، عكس ما ذكرت!
ما يقوله العلمانيون هو جزء من معركة الحرية، وليس كل المعركة. ويندر أن تجد بيننا اليوم من هو مستعدّ لمتابعة فكرة الثورة أو فكرة الحرية إلى حدّ اعتناق فلسفة الجندر مثلاً، والدفاع عن زواج المثليين أو تغيير الجنس، الخ. وعلاوة على ذلك ينبغي التمييز بين العلمانية والليبرالية. ومنذ عهد قريب نشر “تايلور” كتابًا ضخمًا تحت عنوان مثير هو “عصر علماني”. حيث يميّز بين ثلاثة معان من العلمانية: (1) معنى أن تكون الفضاءات العمومية “مفرغة من الله” أو من الدين؛ و(2) فصل الكنيسة والدولة؛ و(3) أن نعيش في عصر علماني يفرض شروطًا أو ظروفًا جديدة للإيمان. هذه المعاني الثلاثة ربما تشير إلى أجيال مختلفة من فكرة الديمقراطية. لكنّها بالتأكيد لا تفرض علينا أن نقيمها حصرًا على أسس ليبرالية. ثمّ إنّه ينبغي التفريق بين الليبرالية الكلاسيكية (لوك، مل)، وبين النقاشات الجديدة (الجماعوية والجمهورانية) مع الليبرالية.
القصد هو أنّ “أسس اللبرالية الحديثة” هي عبارة عامة، ويمكن أن تؤدّي إلى تخصيصات متباينة. وفي تقديرنا أنّ الحلّ العلماني ليس بالضرورة ليبراليًّا. بقي أن نشير إلى أنّ لبّ المشكل ليس في تأسيس أو عدم تأسيس الديمقراطية على اللبرالية الحديثة، بل في قيمة الديمقراطية نفسها. ما نحتاجه هو تعميق البحث والنقاش حول قيم الديمقراطية، وليس حول قيم اللبرالية. وهناك تقاليد مختلفة تمامًا في الدفاع عن فكرة الديمقراطية، ليس اللبرالية غير واحدة منها. وما نجاحها في الغرب الحديث غير حادثة سياسية ومعيارية محلّية، خاصة بتقاليد في الحكم وفي رؤية العالم ومفاهيم المجتمع ومعاني الإنسان، قد لا تتوفّر في ثقافات أخرى.
كتاب "الهوية والحرية" للمسكيني
كتاب “الهوية والحرية” للمسكيني
لا وجود لحرية بلا هوية. لكنّ ما نسمّيه “هوية” يمكن أن يكون مدعاة لخلط كبير لا شفاء منه
نعم، كل من يريد فرض اللبرالية على مجتمعات غير غربية هو يفرض جهازًا هوويًّا على ذوات تنتمي إلى مصادر معيارية للنفس، مختلفة. ومن ثمّ هو يصادر الحرية التاريخية لشعوب برمّتها، حريتها في أن تتذوّت على النحو الخاص بها، وحريتها في أن تختار نموذج العيش الذي يلائمها، ومن خلاله هي تشكّل هوياتها الحية. – لكنّ هذا ليس حكرًا على “العلماني” وحده. فجميع الفرقاء دون استثناء هم يبحثون عن أدواتهم الفكرية أو الدعوية في أيّ تراث يقع تحت أيديهم. ومن ثمّ فإنّ السلفيّ أو الإسلامي هو أيضًا، على قدم المساواة، يسعى إلى فرض التصوّر السلفي أو الإسلامي للشورى باعتباره نموذجًا جيّدًا للحكم الصالح. وهذا لا يخلو بدوره من عنف تأويلي ورمزي على المشاركين الآخرين، “المحدثين” أو “العلمانيين”، في دائرة النقاش حول مستقبل الدولة لدينا.
وقد ذكرت دومًا أنّ “الهوية” ليس لها مضمون واحد، بل إنّ الهوويين يمكن أن يكونوا شيوعيين أو ليبراليين أو حداثويين، نعني أنّ الدفاع عن جهاز هووي جاهز، هو موقف لا ينحصر في جهة الإسلاميين أو السلفيين. لكنّ حرص السلفي أو الإسلامي على اعتبار الدفاع عن الهوية (العربية الإسلامية) شرط أيّ تصالح مع الدولة الحديثة هو الذي دعاني إلى معاملته كممثّل قويّ للنموذج الهووي. لكنّني لا أعتبره الممثّل الوحيد لخطاب الهوية.
ومع ذلك فالنزاع أو التصادم الفكري بين النموذجين، العلماني والسلفي، ليس -ولا يجب أن يكون- تهمة لأحد.
تتضمن غالب كتاباتك هجاءً عنيفًا للهوية التي صنعتها الدولة الحديثة، نتيجة لجهاز الهوية الذي ينتج (أوراق الهوية، وصورة الهوية والبصمة، ويحدد اللغة والدين والقبيلة)… ألا يعد هذا طرحًا مثاليًّا، كيف نتصور أن تقوم دولة أو كيان حديث دون هذه المحددات، التي هي في الأخير نتاج تراكمات المجتمع الذي وصل إلى الحكم فصيل منه؟
من يكتفي بإخبارنا بالحقيقة هو لا يفكّر. ففي واقع الأمر ليس ثمّة حقائق جاهزة عن أنفسنا أو عن العالم، الخ. ولذلك أفضل ما ندّعيه هو التفكير الذي يستمدّ من التدرّب على توسيع حدود العقل لدينا وجاهته. وهي دومًا وجاهة مؤقتة. بقي أن ننبّه إلى أنّ التفكير ليس هجاءً لأحد، وخاصة هو لا يمكن أن يكون هجاءً للهوية بما هي كذلك، بل هو تفاوض عسير مع إمكانيات هوية مغلقة أو مهجورة أو ممنوعة أو مسكوت عنها. ولذلك علينا أن نميّز بين دفاع دعاة الأصالة عن الهوية (العروبة، الإسلام، البربرية، السنّة، الشيعة،..) وبين المفهوم الحديث، الإجرائي والإداري، للهوية، الذي هو من صنع الدولة القومية الحديثة. وهو جزء من ترسانتها القانونية (إلى جانب السيادة والشرعية والحدود والإقليم واللغة، الخ.). قد يستفيد الجميع، الإسلاميون والعلمانيون، من الخلط بين الهوية (الثقافية، الدينية،..) والهوية (القانونية، الإدارية، القومية،..). لكنّ النتيجة هي في آخر المطاف وخيمة. وأحد أسباب تحوّل الثورة إلى حدث تاريخي لقيط في أفقنا راهنًا، هو مثل هذا الخلط.
ما يجدر بالفيلسوف أن يقترحه هو تمرين الناس على هوية إنسانية حقًّا، كونية أو قادرة على الكونية، ومن ثمّ يتيسّر عندئذ تمرين الدولة القومية نفسها (سواء كانت دينية أو علمانية) على الاعتراف بدائرة حقوق في الهوية لا يمكن لأيّ جهاز سلطوي أن يحتكرها أو يراقبها سلفًا. ما صنعته الدولة الحديثة هو هوية مصطنعة، إجرائية وإدارية كي تمارس سلطة بيوسياسية منتظمة وناجعة على أجساد طيّعة مؤهّلة للخضوع والاستعمال العمومي للمجتمع كشبكة حيوية من تقنيات الرقابة وأشكال التذوّت، كما شرح ذلك “فوكو” بطرافة شرسة. ومن ثمّ علينا تنزيل الثورات العربية الراهنة في سياق مقاومة منطق الدولة الحديثة، المعولمة، أكثر منه في سياق الصراع المحلّي بين العلمانيين والسلفيين.
تؤكد كثيرًا بأن “ثمة حق حيوي كوني من شأن كل بشري معاصر أن يتمتع به، ألا وهو الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني..” أليس النوع الإنساني هو بطبيعته عبارة عن مجموعة من الهويات المتعددة التي تحددها عوامل الجغرافيا والزمان، والإرث، والبيئة، والمجموع…إلخ، بحيث يصبح من المستحيل الحصول على ذلك “الإنسان المجرد”.. ما رأيك؟
علينا أن نميّز بين “النوع الإنساني” وبين “الإنسان المجرد”. نحن ننتمي إلى حظيرة النوع البشري باعتباره دائرة معنوية تجمع بين البشر الأحياء (والموتى)، بواسطة رباط رمزي أو روحي أو أخلاقي أو عقلي أو مدني،… يبدو أنّ البشر لم يبلغوا إلى الاتفاق حول وجاهته أو دلالته إلاّ بشكل متأخّر جدًّا. فكرة “الإنسانية” ربما لم تظهر في صفائها المفهومي إلاّ في أواخر القرن الثامن عشر. أمّا معنى “الإنسان المجرد” أو “الكلي” أو “العام” فهي معنى يوناني، وقد تمّ ضبطه منذ سؤال سقراط “ما هو؟”. هذا يعني أنّ النوع الإنساني ليس مجرد “مجموعة من الهويات المتعددة”. بل هو دائرة هوية أوسع أفقًا وأخطر دلالة على وجودنا التاريخي على الأرض. والأمر لا يتعلق بوجود أو عدم وجود “إنسان مجرد” بل بمعنى الانتماء إلى هوية أوسع نطاقًا من الهوية القومية أو الثقافية لأيّ شعب. عنوان المشكل هنا هو المعنى القرآني للـ”تعارف” بين الأمم. نحن “تعارفيون” أكثر ممّا نعتقد. وبالتالي هناك حقّ كوني في التعارف لا يمكن أن نسمح لأحد بدوسه أو إبطاله.
ما يجدر بالفيلسوف أن يقترحه هو تمرين الناس على هوية إنسانية حقًّا، كونية أو قادرة على الكونية، ومن ثمّ يتيسّر عندئذ تمرين الدولة القومية نفسها
النوع البشري طفل ميتافيزيقي لا يحق لأحد أن يكذب عليه متعمدًا. ولو باسم الآلهة. لكن لا حدّ للتعالي الإنساني: كل من يريد أن يذهب فيما أبعد من الحيوان الذي فيه، في جسمه وفي عقله، له ذلك. مع العلم بأنّ ذلك مهمّة غير مأمونة العواقب.
تساءلت مرة فقلت: “إلى أي حد يمكن للفيلسوف أن يفكر في الذات بلا هوية، متى تقترح علينا الفلسفة المعاصرة ذاتًا بلا رواسب هووية لا شفاء منها” .. هذه الذات المجردة ألا تصبح بهذا التجريد مجرد جسم/ كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى؟
كان هذا الكلام نقاشًا مع إشكالية الفلسفة الغربية الحديثة: فهي من جهة، ما فتئت تؤكّد، منذ ديكارت، أنّ الأنا المفكّر هو درجة من الانتماء إلى أنفسنا هي من الصفاء واليقين والاستقلال والإثبات لنفسها، بحيث يمكن أن نؤسّس عليها شروط إمكان الحقيقة حول ظواهر العالم من حولنا. ولكن في المقابل، منذ “هيغل”، انخرطت الفلسفة الغربية فجأة في بناء سرديات كبرى حول “هوية” هذا الأنا وتاريخه الروحي وأطوار وعيه بذاته والتشكّلات اللغوية التي تكلّمها،…الخ. وبالتالي فوجئنا بنوع من “الخيانة” للمشروع الديكارتي الذي كان رائدًا في بلورة تصوّر كوني للأنا القادر على السيطرة على الطبيعة من حوله بواسطة عقله التقني فحسب. لكنّ القرون التالية من تاريخ الحداثة قد شهد تراجعًا مريعًا عن تلك النزعة الكونية في الأنا المحض للإنسان بما هو إنسان، وتحوّل إلى برنامج فينومينولوجي للهوية الغربية التي لم تدّخر جهدًا في ترجمة انتصارها الميتافيزيقي على المفهومات قبل الحديثة للإنسان، إلى برنامج لاستعمار العالم والعمل على “أوربة” أو “غربنة” الوعي البشري قاطبة، وذلك تحت حماية فلسفية شديدة (هيغل، مل، فيبر،…).
ولذلك ثمة فرق بين “ذات بلا هوية”(نعني ذاتًا قادرة على التحكّم في هواجسها الهووية) وبين “الذات المجردة التي تصبح بهذا التجريد مجرد جسم/ كائن حي، وجوده كوجود الكائنات الحية الأخرى”. لكنّه فرق سعيد: نحن فعلاً نريد أن نقترح معنى حيويًّا للهوية. فالحياة ليست أقلّ انفعالات الكائن أو الجسم. بل بالعكس، نحن قلّما نكون أجسامنا، وبالتالي قلّما نكون أحياءً بالمعنى الراقي للكلمة. فمجرد امتلاك جسم مادي، عضوي، حي، لا يعني أنّنا نعيش حياتنا بالشكل الذي يجعلها حياة قابلة للعيش، كما تقول فيلسوفة الجندر الأمريكية، “جوديث بتلر”.

فلسفة الثورات العربية

قلت في معرض الإشادة بالثورات العربية، بأننا نشهد في العالم العربي أول تفكك داخلي لمفهوم “القائد” في مخيالنا السياسي، وسقوط مفهوم “النخبة”، و”الزعيم”. ألا ترى أن غياب هذه العناصر كانت أحد أهم العوامل لتفكك جهود الثائرين وضياعها وتناحرها، ومن ثم فسح المجال مرة أخرى لعودة كبيرة لفكرة “الزعيم” في ظل ترحيب متعطش لها من قبل الجماهير، كما يحدث في مصر الآن، ما رأيك؟
ما قلناه عن تفكّك فكرة “القائد” أو “الزعيم” يتعلق خصيصًا بالقائد أو الزعيم “الهووي”. نعني الذي يأتي ليطبّق برنامجًا جاهزًا للحرية أو للعقيدة أو للانتماء، الخ. ما وقع هو أنّنا دخلنا العصر ما بعد الإيديولوجي، و”النخبة” الإيديولوجية لم يعد لها أيّ مكان. ربمّا سيعوّضها لبعض الوقت نوع من المثقف ما بعد الإيديولوجي. لكنّ المؤكّد هو أنّ فكرة “القيادة” أو “الزعامة” قد تغيّرت. مع الثورة، نحن دخلنا فجأة في ما بعد تاريخ الدولة العربية التي نعرفها منذ الاستقلال. وفجأة تحوّل الفضاء العمومي للتفكير إلى معمل لصنع الممكنات، ولكن أيضا “للاّ-ممكنات”. علينا أن نقرّ بأنّ الثورة ليست شركة أو دبلومًا. بل هي حالة ذهنية أو حالة حرية. ولذلك فإنّ تعثّر الثورات العربية في مصر أو في تونس ليس راجعًا سببه إلى غياب القيادات أو الزعامات أو النخب التقليدية المناسبة. بل سببه هو الفراغ السياسي الذي ينجم عن العصر ما بعد الإيديولوجي. في غياب خطاب هووي (إيديولوجيا رمسية جاهزة) تصبح الدولة لعبة من الحريات التي لا تملك برنامجًا محدّدًا أو موحّدًا لنفسها. دخلنا في علاقة طيفية مع أنفسنا الجديدة: أنواع عديدة من المستقبل أخذت كلّها تعمل في وقت واحد.
أمّا “فسح المجال مرة أخرى لعودة كبيرة لفكرة “الزعيم” في ظل ترحيب متعطش لها من قبل الجماهير”، فهذه ترجمة لما وقع في مصر في لغة ما قبل الثورة. نحن نفترض أنّ المشكل ليس غياب القائد، ومن ثمّ فإنّ ترحيب الجماهير بترشّح “قائد” الجيش ومطالبته بالعمل على “إنقاذ” الثورة من الإخوان “المضادين للثورة”، هو موقف يمكن قراءته بطريقة أخرى تمامًا. ما يطالب به الجمهور ليس العودة إلى القيادة الهووية للزعيم التاريخي، الملهم، الخ. وإلى المخيال السياسي للزعامة المصاحب لها، بل فقط حماية الثورة الحماية المؤقتة المناسبة التي تؤمّن الانتقال الديمقراطي المتعثّر. وقد أيقن المصريون -على خلاف التونسيين- أنّ الجيش أو المؤسسة العسكرية يمكن أن تتدخّل مباشرة في حسم النزاع. ولذلك فالجماهير تبحث عن مساعدة عسكرية في ظلّ جوّ حربي فرضته الحركات المتطرفة على المجتمع المدني. مساعدة بدون أيّ اعتناق إيديولوجي. ولكن يحق لنا أن نسأل في المقابل: هل هذا الاختيار مأمون العواقب؟ ألا يوفّر ذلك فرصة سانحة لعودة الحاكم الهووي تحت غطاء المنقذ؟ ما نرجوه هو شيء آخر: ينبغي تنشيط كلّ تقاليد “التدبير” التي عرفتها الإنسانية وتدبير العالم وكأنّه المنزل الأخير للإنسان. وما يسمّى راهنا “الحكم الصالح” أو “الحكم الرشيد” أو “الحوكمة” هو استعادة محتشمة، تحت غطاء نقد التصوّر القانوني للدولة الحديثة، لمعنى “التدبير” الذي فكّر به القدماء: التصرّف المناسب المقتصد المحتسب للثروة أو الموارد باعتبارها أمانة ما بعد شخصية للشخص “مسئول”، الذي لم يعد يحقّ له أن يعتبر نفسه “حاكمًا” أو “قائدًا” لأحد. نحن ننتقل من مقولة “الحاكم” إلى مفهوم “المسئول”. وإن كان ذلك يتمّ ببطء لاهوتي محبط.
بعد أن تحدث الكثيرون بأن حقبة الربيع العربي قد انتهت، دعني أوجه لك سؤالاً سبق وأن تساءلت به أنت في إحدى مقالاتك: كيف تحوّلت الثورة إلى نقاش لا نهائي عن الشرعية؟ وكيف انقلبت آمال الحرية إلى مجموعة فظيعة من المجادلات.. والحروب؟
بعد فوز الإسلاميين في الانتخابات في مصر وتونس، تشكّل مشهد جديد للحكم: أناس بنوا وجاهة هويتهم السياسية على نقد الدولة الحديثة والتصادم العنيف معها، وصلوا أخيرًا إلى الحكم بطريقة شرعية. ولكنّ المجتمع المدني الذي احتفى بالثورة وجد نفسه مرغمًا على تسليم السلطة الشرعية إلى طبقة سياسية لها برنامج سياسي لا علاقة له بأهداف الثورة كما تشكّلت في أذهان الشباب العاطل الذي قام بها. ومن ثورة كرامة تحوّلت فجأة إلى ثورة هوية. يبدو لي أنّ الثورة قد وقعت في لحظة وهن ما بعد إيديولوجي جاءت الحركات الإسلامية واستغلّته وحوّلته إلى انتصار عقدي ودعوي لطرف كان حذرًا جدّا من الثورة بمعناها الحديث. لكنّ من ينجح في استغلال الفراغ ما بعد الإيديولوجي لا يعني أنّه يمتلك برنامجًا مناسبًا للحرية.
أنصار مرسي في مصر يرفعون شعار "رابعة العدوية"
أنصار مرسي في مصر يرفعون شعار “رابعة العدوية”
الإسلاميون سرقوا الحرية من قلوب أصحابها وحولوها سريعاً إلى أداة هووية
إلاّ أنّ ذلك النقاش الطويل حول الشرعية لم يكن خطأً أو تحريفًا للمسار، بل فقط كشف عن عمق الفجوة التي تفصل بين هويتنا الثقافية التي تتجذر في تجربة الإسلام الكلاسيكي وبين هوية الدولة الحديثة. وعلى كل تحتاج الحرية ما بعد الدينية وما بعد العلمانية إلى جدل حقيقي مع نفسها، حتى نتأكّد من أنّ ما وقع لم يكن مزحة تاريخية على الشعوب.
المطلوب هو طرح مسائل “الشرعية” على مستويات أخرى، وبطرق أكثر تركيبًا. فمن يتمّ انتخابه من قبل الناخبين في وقت دون آخر هو ليس قائدًا أو ملهمًا أو شرعيًّا بإطلاق. بل هو فقط مترشّح استجاب لانفعالات الناس في مرحلة معيّنة. وهذه الانفعالات مؤقتة وهشّة ويمكن بناؤها أو هدمها. ولذلك فالشرعية دور عمومي وليس ملكية خاصة لطرف دون آخر. ثمّة فرق مميت بين “الشرعية” (الانتخابية) و”المشروعية” (الأخلاقية) و”الشرع” (الديني). والإسلاميون يميلون إلى الخلط بين هذه المعاجم. لكن الطرح العلماني هو بدوره لا يخلو من خلط بين “الشرعي” (القانوني) و”المشروع” (المبرّر أخلاقيًّا حسب الجماعة الروحية العميقة التي تخترق مشاعر المواطنين في شكل ذاكرة أو هوية أو انتماء أو قيم…).
هل تبدلت مواقفك من الثورات العربية بعد أن رأيت مآلاتها الآن وقد انتهت إلى احتراب داخلي، في سوريا، ومصر، وليبيا، واليمن..؟
لا. الشعوب لا تندم. ونحن لا نفعل سوى أن نرافق قيمة الحرية في أفقها. وأيّ دور آخر هو بمثابة اعتداء عليها. ومع ذلك علينا أن نميّز بين حاجة الشعوب إلى “الثورات” حتى تستعيد توازنها التاريخي بين الهوية والحرية، وبين “مآلاتها” الحربية الراهنة. إذ من يخوض الحرب في هذه البلدان؟ إنّ “هوية” الثائر قد تشوّشت بشكل فظيع. وصرنا لا نفرّق بين “الشعب” و بين “الفصائل المقاتلة”، ضدّ الدولة الحديثة. لكنّ تدمير الدولة لن يؤدي إلاّ إلى خراب الهوية والحرية معًا. ولذلك فمن يفكّر في دلالة الثورة ويصاحب تعرّجاتها المفهومية، هو لا يدافع بأيّ حال من الأحوال عن “الاحتراب الداخلي” في البلاد العربية. أشار “كانط” مرة إلى أنّ الحرب يمكن أن تكون “جليلة” حين تقوم بشكلها المناسب. وليس مناسبًا للحرب مثل أن تدافع عن قيمة الحرية في وعي شعب ما. هل تندم الحرية ؟ طبعًا، لا يمكن للفكر أن يدافع عن الشرّ ؟ على كل حال، لم نبلغ بعد هذا المستوى من البراءة ما بعد الأخلاقية. لكنّ إرهاب الحقيقة ليس أقلّ قتلاً من إرهاب الخطأ. ويبدو لي أنّ الشعوب لا تخطئ. إنّها فقط تدافع عن أوهامها. ولذلك كلّ من يواصل الحديث عن العدالة يخادعنا. طمأنة الأطفال البشرية أفضل.
في الغرب، وصل الشخص البشري إلى العيش داخل أجساد عابرة للأجناس. أمّا لدينا فنحن ما نزال نستكثر على الشعوب أن تطوّر أرواحًا عابرة للأديان. والحال أنّ الجندرة الدينية أخطر وأشدّ فتكًا من أيّ جندرة أخرى.
ما تفسيرك لانبعاث التطرف الديني من جديد في العالم العربي، مصحوبًا بتأييد شعبي كبير، هل فشلت الدولة الحديثة في تأسيس قيم الحداثة، وذهبت جهودها سدى منذ دولة محمد علي باشا وحتى اليوم؟
هذا سؤال رشيق، كنت أنتظره. نعم، إنّ جزءًا كبيرًا من المشكل يرجع إلى دور الدولة ومفهومها. نحن لم نتوفّق إلى حدّ الآن في بلورة مفهوم مناسب للدولة لدينا. هناك حكم، ولكن ليس هناك دولة. ولذلك فإنّ “التطرف الديني” ليس مفصولاً عن طبيعة العلاقة الحديثة التي تبنيها الدولة مع الأفراد. وعلينا أن نكفّ عن معاملة التطرف وكأنّه عاصفة متأتية من قلب القرون الوسطى. إنّ التطرّف جزء من ماهية الحداثة نفسها. نعني بالحداثة إرادة إخضاع الكائن بواسطة العقل التقني باعتباره مجرد شيء لا يملك أيّ معنى خارج الاستعمال الأداتي له. ولو ترجمنا هذا في نظرية السيادة أو السلطة أو القانون، الخ. كما تستعملها الدولة الحديثة لفهمنا أنّ أيّ نوع من “العنف” الحديث (والتطرف شكل منه) هو جزء من طبيعة العلاقة مع الدولة الحديثة، وليس غريبًا عنها. ذلك يعني أنّ قيم الحداثة هي نفسها لا تخلو من عنف تكنولوجي وقانوني وطبي وحربي، الخ. وليست أسماء ماركس ونيتشه وهيدغر وأدورنو وديريدا،الخ. إلاّ إشارات حادة إلى نقد الطابع الحربي العميق للذاتية الحديثة.
التطرّف جزء من ماهية الحداثة نفسها. نعني بالحداثة إرادة إخضاع الكائن بواسطة العقل التقني باعتباره مجرد شيء لا يملك أيّ معنى خارج الاستعمال الأداتي له
أمّا التأييد الشعبي للتطرّف الديني فهو رأي قابل للنقاش. فالشعب لئن كان يؤيّد الدين فهو لا يؤيد التطرّف. يمكن أن نخدع شعبًا من الشعوب باستعمال مصادر ذاته ضدّ غريزة الحرية لديه، ولكنّ ذلك لا يتمّ إلاّ في ظروف هووية مهينة أو مؤلمة. أمّا في حالات الصحة التاريخية فالشعوب لا يمكن خداعها، ولو بالدِّين.
في ذات السياق، وفي النموذج التونسي الذي فرضت فيه القيم العلمانية بقوة القانون منذ الحبيب بورقيبة، وانعجنت مع حياة الناس وشؤونهم، كيف تفسر أن يعود فيه التطرف الإسلامي بقوة طاغية، وتصبح الدولة الأولى في عدد المقاتلين الأجانب في سوريا؟
ثمّة مبالغة مضاعفة في هذا السؤال: أوّلاً، دستور بورقيبة لم يكن علمانيًّا بالقدر الذي يُشاع، بل كان مؤسسًا على اجتهادات منتقاة من الجدل الفقهي الإسلامي ومدارسه المختلفة؛ وبهذا المعنى فالتهمة العلمانية ليست قوية، إلاّ إذا اعتبرنا موافقة الأحكام الحديثة لأحكام إسلامية خطأ علمانيًّا. وثانيًا، من الإجحاف القول بأنّ “التطرف الإسلامي” قد عاد “بقوة طاغية” في تونس. ولئن كانت هذه الأخيرة “الدولة الأولى في عدد المقاتلين الأجانب في سوريا”، فذلك لأسباب لا علاقة لها حصرًا بالتطرف الديني. نعم، في تونس هناك حركة إسلامية، لكنّها ليست كلّها “متطرفة” ولا هي “طاغية”، وفي العمق هي (كما هو حال حركة النهضة) إسلام تونسي شبه بورقيبي. وبعامة فإنّ ما حدث هو وجود أطياف إسلاموية عابرة للبلدان العربية ومعولمة، ولا يمكن اتهام أيّ بلد بأنّه صنعها أو صدّرها. أمّا الذين يذهبون إلى سوريا للقتال فعلينا أن نسأل: “من” انتدبهم لذلك؟ ثمّ ما هي “الأسباب” الحيوية التي دفعتهم إلى الإقدام على هذه المغامرة التي تكلّف المال الكثير بالنسبة إلى شباب عاطل عن العمل منذ عشرات السنين؟ أنا لا أجد فرقًا حقيقيًّا بين من “يحرق” إلى إيطاليا ويموت غرقًا في البحر فيأكله سمك القرش، وبين من “يهاجر” للقتال في سوريا ويموت برصاص الحاكم الهووي للدولة الحديثة.
في كتابك “الثورات العربية.. سيرة غير ذاتية” حذرت من “سرَّاق الثورات في الداخل” .. ألا ترى بأن هذا المصطلح قد أصبح فضفاضًا وغير واضح المعالم كل طرف يطلقه على الآخر ؟ من هم السُرّاق؟، وما هو المسروق؟
بالعكس، سرقة الثورات هي صناعة ذكية للنخب ما بعد الإيديولوجية ولن تنقرض قريبًا. أمّا تبادل التهم بها من طرف الفرقاء فهذا لا يغيّر من طبيعة المشكل شيئًا. السرّاق هم من لم يشاركوا في الثورة ولا كانت جزءًا من برامجهم العميقة. وهذا الوصف ينطبق على كلّ النخب السابقة على الثورة. وبالتالي هي لا تنحصر في خانة الإسلاميين. أمّا المسروق فهو حلم الحرية، لا غير.
كتاب "الثورات العربية.. سيرة غير ذاتية" لفتحي المسكيني، وأم الزين بنشيخة
كتاب “الثورات العربية.. سيرة غير ذاتية” لفتحي المسكيني، وأم الزين بنشيخة

تحلم الشعوب العربية الحالية بالارتقاء إلى شكل كريم من الحياة القابلة للحياة. وهي لا تشترط أيّ وصفة محدّدة لهذا الحلم. كلّ ما يساهم في تحقيق كرامة البشريّ هو قيمة حرية. وعلى الدول أن تكفّ من استعمال فزّاعة الهوية ضدّ الشعوب. بل عليها أن تساعدها على الانتصار على ثقافة الموت التي يمكن أن تقع تحت أيدي سرّاق الحرية، مهما كان اسمهم أو مذهبهم، فيستعملونها ضدّ الحياة.
يمكن للشخص العادي، اليومي، اللامبالي، بآلام شعب أو مجموعة من الشعوب، أن يكون بمثابة سارق كبير، محترف، لقيمة الثورة. وإن كان سيبيعها في آخر الشارع لأيّ متطفّل على السوق.
ألا يقودنا الحديث عن “الثورة” بهذا الشكل، إلى أن تتحول هي الأخرى إلى “هوية” تحاصر حريتنا. قد حدث ذلك كثيرًا حين تحولت “الثورة” إلى أيدلوجيا بها يلاحق ويقتل الخصوم؟
أجل، بالفعل. يمكن للثورة أن تنقلب شيئًا فشيئًا إلى جهاز هووي فارغ يحاصر الحريات الجديدة في كل مرة. وذلك يعني أنّ الثورة نوع من الآتي الذي يسخر من جميع المنتظرين له دون اختراعه. طبعًا، من السخرية أن نؤجّل ما لا يأتي أبدًا. وشعوبنا بدأت تسخر من نفسها، من ثوراتها، وذلك بإغلاق باب المستقبل عليها، والتفرغ إلى حاضر شكلي بلا وعود كبيرة. نحن خرجنا من الثورة لكننا لم ندخل إلى أيّ مرحلة مختلفة. طبعًا، الثورة رسمت حدودًا جديدة لأنفسنا. لكن العالم لم يتغيّر. نحن نحاول أن نشغّل آلة المستقبل إلاّ أنّها لا تستجيب من فرط تعوّد الوعي بالزمان التاريخي لدينا على التعويل على الدولة. والتعويل على الدولة في تحديد معنى المصير هي آفة شعوبنا. ولذلك حين وقعت الثورات، نحن لم نعثر بعد على زاوية النظر المناسبة للحكم على ما وقع.
لكنّ التخيير بين الثورة والدكتاتورية لا يناسب مروءة التفكير الحرّ ولا ينصف أحدًا.

الفلسفة والدين

دعني أنتقل لشق آخر، سبق وقلت بأن “الفلسفة ليست بالضرورة نقدًا للدين، بل تأصيلاً جذريًّا لإمكانيته في الطبيعة البشرية”، إذن كيف تفسر هذا الصراع التاريخي القائم بين الفلسفة والأديان التي ترى بأن العقلانية التي تسعى إليها الفلسفة تهدف إلى هدم فعالية المقدس؟
في الحقيقة ما نسمّيه “صراعًا تاريخيًّا بين الفلسفة والأديان” هو ظاهرة “ثقافية” أو “إيديولوجية” حديثة العهد جدّا، وليس جزءًا من ماهية الفلسفة في لحظاتها الأصيلة. بل إنّ اسم الفلسفة الأكبر هو “الإلهيات” وليس شيئًا آخر. وهل يوجد خطاب آخر للبحث في وجود الله أو خلود النفس أو طبيعة العالم غير الميتافيزيقا؟ – قد تكون أقوال الفلاسفة مثيرة للحيرة أو مدعاة للتساؤل العميق، أو جريئة جدّا بالنسبة إلى العقل الكسول، لكنّ ذلك لا يجعل منها عدوّة لمن يبحث عن الحق، أو يريد أن يحرّر نفسه و”يكسر زجاجة التقليد” كما قال الغزالي الحائر ذات مرة. ربما ما يثير في الفلسفة هو كونها تشترك مع الأديان في ميدان السؤال لكنّها تختلف عنه في طريقة الإجابة. إنّ إله الفلاسفة مختلف عن إله الأديان لكنّه إله أيضًا. وليس خديعة نظرية. الفرق بين الفلسفة والدين هو كون الفلسفة تصارحنا بأنّ عقولنا هي سقف الحقيقة الممكنة بالنسبة إلى كائنات من نوعنا. أمّا الدين فإنّه لا يجرؤ على ذلك، وإلاّ انهدم بنيانه العقدي. والحال أنّ الدين هو أكبر مؤسسة معنى اخترعها النوع البشري من أجل تدريب البشر على تحمّل عبء الكينونة في العالم وتحويلها إلى مشروع أخلاقي لأنفسنا. ولولا الدين لكان النوع البشري قد انقرض منذ وقت طويل. ولذلك فكلّ من يحرص على تغذية العداء المزّيف بين الفلسفة والدين هو لم يفهم شيئًا من طبيعة الحاجة الأصلية إلى السؤال الفلسفي، أي إقامة السؤال الكلي عمّا يتخطّى أفق العقل البشري كما هو متاح للكائنات التي من جنسنا، ومع ذلك نحن لا نستطيع ألاّ نتساءل عن ماهيته أو عن معناه أو عن نمط الكينونة في العالم التي يفرضها علينا. وهذا أمر نعته “كانط” بأنّه “القدر الخاص” بالعقل البشري: كونه مهمومًا بأسئلة، من جهة، لا يستطيع تلافيها لأنّها نابعة من طبيعته، ومن جهة، لا يستطيع الإجابة عنها لأنّها تتجاوز قدرته على الإجابة. هل يمتلك الدين ميدانا آخر للمعنى؟ وما الذي يعنيه بكلمة “المقدس” غير تلك المنطقة التي تصبح فيها الأسئلة التي تؤرق العقل البشري ليس فقط ممكنة بل ملحّة بشكل لا مردّ له؟
قد تظهر الفلسفة في مظهر دين خجول. وقد يبدو الدين في هيئة فلسفة خرقاء. لكنّ ما يجمع بين الطرفين هو أرق العقل أمام ما يتعالى على النفس البشرية، ويدفع بها إلى نمط رائع ومريع من الأسئلة التي لا يمكن لأيّ طرف أن يزعم الإجابة النهائية عنها. ومنذ “كانط” أصبحنا نملك تفسيرًا مناسبًا لعقولنا عن كيفية تشكّل ميدان الرجاء في النفس البشرية، وكيف يمكن تمرين النفوس الحرة على إيمان بلا لاهوت جاهز. ثمّ صرنا اليوم نعرف أنّ المقدّس ينطوي هو ذاته على شكل فريد من المعقولية، ينبغي الإنصات إليها ومساءلتها من الداخل دون أيّ أحكام “عقلانية” مسبقة. إذ يشير المقدّس إلى تجربة معنى على الفلاسفة (كما دعا إلى ذلك هيدغر) أن يدخلوا في حوار عميق معها. وهو ما حاول الانخراط في إنجازه فلاسفة أشدّاء من قبيل ليفناس وريكور ودريدا.
أشعر أنّ ثمّة إرادة تشويش على ثقافة العقل في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. فالكل يعلم، من الفقهاء إلى الفلاسفة، مرورًا بالساسة وكل أنواع المثقفين، أنّ الإسلام الكلاسيكي، مدوّنة وتجارب وآثارًا فنية وفلسفية وعلمية، لم يكرّس أبدًا عقلانية هدّامة لفعالية المقدّس. وإذا لم يكن أسلافنا قد رأوا أيّة فائدة ميتافيزيقية أو وجاهة حضارية في معاداة الشرائع، فلماذا نقوم نحن بذلك، نحن أبناء الأزمنة الحديثة؟
لقد تبيّن اليوم -أكثر من أيّ وقت مضى- أنّ الدين مؤسسة رمزية تنطوي على معقوليات محايثة، معقّدة ومتماسكة لا يمكن إنكارها. ومن ثمّ أنّ ما يسمّى “المقدّس” (وهي تسمية غريبة عن ثقافتنا الكلاسيكية) هو ميدان رمزي وتأويلي على قدر عال من الكثافة الدلالية والعقلية، وليس مجرّد جدار أخروي لا يجلس تحته إلاّ مجانين الموت.
وليس صحيحًا أنّ العقلانية والفلسفة هما مترادفان. كما أنّه ليس صحيحًا أنّ الدين والمقدّس هما نفس الشيء. ثمّة مقدّسات غير دينية بل علمانية أصلاً. وكلّ معارك الدولة القومية الحديثة تمّت تحت نداء مقدّسات غير دينية (تقديس الواجب، الوطن، الأرض، العلم، الكرامة،…). كما أنّ الفلسفة هي بالأساس تجربة تفكير حرّ ينقد العقل في كل ملكاته، ويرسم حدوده ويحاكمه، وإن كان يفعل ذلك بواسطة العقل نفسه. وهذا ما لا يريد دعاة التكفير فهمه: أنّه يمكننا كبشر أن نذهب فيما أبعد من عقولنا ولكن بواسطة عقولنا وحدها. وكل سردية أخرى، مهما كانت نبيلة ينبغي مرافقتها بالعقل. وعلى كلّ فإنّ العقل مؤسسة لم تستقرّ بعد لدينا.
ترجمت أعمالاً فلسفية مهمة لكبار الفلاسفة، ككانط وهيدغر، كيف ترى واقع الترجمة العربية للأعمال الفلسفية… هل الاعتماد عليها بالمجمل يمكن أن يقدم استيعابًا ناضجًا لأهم النظريات الفلسفية؟
الترجمة مسار تاريخي من التمرين الروحي على تأهيل لغتنا للمشاركة في النقاش الكوني حول مستقبل العقل الإنساني، ومستقبل النوع البشري. ولذلك فكلّ جهد ترجمي هو بشرى سارة للعقل في أيّ ثقافة، وذلك مهما كان مستوى تلك الترجمة من الدقة أو الرشاقة أو الأمانة. لكنّ الرداءة ليست قدرًا. وعلينا أن نعمل على تحسين أداء لغتنا في استيعاب المكاسب الروحية والجمالية والعلمية والمدنية الكبرى للإنسانية الحديثة انطلاقًا من أنّ ذلك هو عمل إستراتيجي يتوقّف عليه مستقبل الحرية في أفقنا الأخلاقي والسياسي، وليس مجرّد استجابة تقنية لحاجة المدارس. واقع الترجمة العربية في تحسّن مطّرد وعلينا أن نأمل المزيد من الوعي بأنّ الترجمة عملية تحرير مريرة لعقولنا بواسطة تدريب طريف جدّا للغتنا على تكلّم اللغات العظيمة التي شكّلت وعي الإنسانية الحالية. إنّ الألمانية مثلاً، أو الإنجليزية أو الفرنسية، هي بمثابة أقدار ميتافيزيقية وروحية للإنسان الحديث، وليست مجرد ألسنة قومية لشعوب معزولة. ولذلك علينا امتحان العربية بلا انقطاع حتى تقول الإنسانية الحالية بكل حقائقها وجروحها وأوهامها وتجاربها، بلحمها اللغوي الخاص.
فتحي المسكيني يتسلم جائزة الشيخ زايد للكتاب عن ترجمة كتاب هيدغر " الكينونة والزمان"
فتحي المسكيني يتسلم جائزة الشيخ زايد للكتاب عن ترجمة كتاب هيدغر ” الكينونة والزمان”
الترجمة مسار تاريخي من التمرين الروحي على تأهيل لغتنا للمشاركة في النقاش الكوني حول مستقبل العقل الإنساني
نحن لا نشترط “استيعابًا ناضجًا للنظريات الفلسفية” فهذا أمر أوّلي ومدرسي فقط. فالمترجم الأصيل هو الذي يجرؤ على تعليم الفلاسفة الغربيين كيف يتكلّمون لغة الضاد، ومن غير لكنة ولا عجمة. الترجمة تدرّب على استدعاء العقل الإنساني الكوني إلى داخل لغتنا. فإذا طال هذا بنا وتحسّن كأشدّ ما يكون، صار عندئذ إنتاج العلوم بلغتنا ليس فقط ممكنًا، فهو ممكن دائمًا، بل صادرًا عن عفوية ميتافيزيقية وإبداعية عميقة لثقافتنا، ليس كثقافة محلية أو خاصة، بل كشريك قوي في مؤسسة العقل الإنساني في بعده الكوني. بالترجمة، علينا أن نجرّب على أنفسنا وعلى حواسنا وعلى عقولنا كلّ ما قالته الإنسانية الحديثة على لسان مبدعيها بلغات أخرى.
من جانب آخر.. ألا يمكن القول بأنه مهما كان اجتهاد المترجم وسعة ثقافته وحذقه، فإن ترجمة النصوص الفلسفية والأدبية هي خيانة، خيانة بوجه أو بآخر؟
نحن لا نترجم إلاّ لأنّنا جزء من مساحة الإنسانية، وبالتالي فإنّ أيّ خيانة هي بمثابة حبّ آخر. نحن لا نخون إلاّ ما نحبّ. وهذا الأمر يشبه العلاقة مع الحدود: أنت لن تشعر بوجود حدّ ما إلاّ إذا ما اجتزته. ولذلك يُقال إنّ القوانين وُجدت من أجل اختراقها. والترجمة هي من هذا القبيل: علينا أن نمرّن لغتنا على خيانة اللغات الأخرى حتى تقول نفسها. المطلوب ليس الأمانة المميتة للغة/ الهدف، اللغة التي نترجم إليها، بل الخيانة اللائقة للغة/ المصدر، اللغة التي نترجم عنها، خيانة تليق بإمكانية الإبداع التي يُقدم عليها المترجم حتى يصبح كلام كانط أو هيدغر بالعربية ممكنًا. طبعًا، في بعض الأحيان علينا أن نختار بين “الجميلات الخائنات” (ترجمة تأويلية)، وبين “الوفيات القبيحات” (ترجمة تقنية). لكنّ الاختيار ليس يسيرًا دومًا. وعل كل حال ، كل ترجمة خيانة، ولكن في معنى نبيل: هو التأويل. وفي واقع الأمر كل كلامنا مجاز أو “تعبير” أي نقل للمعاني من مستوى من القول إلى مستوى آخر، وهذا يعني أنّ الترجمة لا تتمّ فقط بين لغة وأخرى، بل أيضًا داخل نفس اللغة. مثلا: من يستطيع اليوم أن يتذوّق معلقة جاهلية دون عمل تداولي نشيط على معانيها حتى تقول لنا شيئًا يليق بعقولنا ما بعد الحديثة؟ من يقرأ اليوم نصوص ابن عربي ويفهم حتى الطبقة التأويلية الأولى منها؟ بل إنّ القرآن نفسه، كما قال أحد مفكّرينا في تونس، هو نصّ لم نبدأ بعدُ في قراءته؟
عنونت خاتمة كتابك “فلسفة النوابت”، بسؤال “ما هو الفيلسوف” .. يبدو أن السؤال مازال قائمًا، برأيك ما هي الأدوات والصفات التي يجب أن تكون متوافرة لدى من يريد أن يقوم بمهمة الفيلسوف؟
في الحقيقة، كان سؤالي “من هو الفيلسوف ؟” وليس “ما هو الفيلسوف ؟”. والفرق بين الصياغتين خطير جدًا. لا توجد أبدًا أيّة “ماهية” مسبقة لشخصية الفيلسوف، بل فقط قدرة على احتمال السؤال عن معنى الكينونة التي تخصّه. وما يخصّ الفيلسوف هو نمط التفكير الذي يمتشقه كي ينشئ أفقًا للمعنى مناسبًا لتجربته في العالم المعيش الذي ينتمي إليه سلفًا. الفيلسوف مهمّة وليس ماهية. ولذلك هو مدعوّ دومًا إلى إعادة كرة السؤال عمّا لم يسأل عنه بعد. مع افتراض صارم بأنّ التساؤل أو “التسآل”( حتى نحيي تعبيرًا يعود إلى عصر المعلقات) هو نمط وجود على قدر عال من الاتساق والطرافة، وليس مجرد أداة للانتقال من الطلب إلى الإجابة. في الفلسفة، كل الإجابات تنتمي إلى لحظة الوهن الروحي للفكرة، حيث لم يعد هناك مساحة لمواصلة السؤال، بسبب مانع من الموانع، وهي دومًا موانع خارجة عن إرادة التفلسف. نحن نتفلسف دائمًا على حدود عقولنا المستقرة في ثقافة ما. ولذلك يبدو وجه الفيلسوف على الدوام وجهًا غير مألوف أو غير مكتمل الملامح أو مريبًا. وذلك من فرط هيمنة العقل الكسول، حسب عبارة “كانط”، على مناطق التفكير المتاحة.
لولا الدين لانقرض النوع البشري منذ وقت طويل. ولذلك فكلّ من يحرص على تغذية العداء المزّيف بين الفلسفة والدين هو واهم
لا يحتاج الفيلسوف كي يظهر في ثقافة ما إلى أيّ أدوات مؤسساتية أو إدارية. وهو لا يحتاج إلى وجود أيّة ملكات أو صفات خارقة كي يفكّر. ما يحتاجه الفيلسوف هو نمط من التعالي على كلّ ما نعرفه أو نفعله أو نقوله أو نحس به باعتباره جدارًا نهائيًّا وقاهرًا لأنفسنا. مثلاً: الثورة أتاحت أمام المتفلسفة فرصة تاريخية للانخراط في تجريب ميتافيزيقي غير مسبوق على حدود هويتنا المستقرة منذ ألفي عام. لكنّ النتائج مخيبة للآمال. وعلى كل لا تزال الثورة حدثًا غير مرئيّ بالنسبة إلى عديد المفكرين لدينا.
دور الفيلسوف أن يصاحب الآلام الكبرى، لا أن يشرّع لها. ليس عليه أن يفرض أيّ شكل على الصيرورة. لكنّه مطالب ببراءة السؤال.

سؤال الماضي

كثير من المشاريع والقراءات العربية حاولت أن تقدم صيغة ما للتعامل مع الماضي/التراث، ما بين القطيعة أو التفاعل أو الإحياء والتواصل .. كيف ترى هذه المشاريع وأثرها؟
يجدر بنا الآن أن نميّز تمييزًا صارمًا بين الفلسفة وبين قراءات التراث. وفي الحقيقة، كلّ من يحصر التفكير في مشاريع قراءة التراث هو يهوّن على نفسه كثيرًا، مهمّة التفلسف. كلّ العلاقات مع الماضي متهافتة، طالما هي لا تقدم على إعادة اختراع دلالة هذا الماضي بالنسبة إلينا، نحن سكّان المستقبل، انطلاقًا من أفق الحاضر. ولقد صُرفت مجهودات مريرة للسيطرة على دلالة التراث بالنسبة إلى جيل الاستقلال، وكأنّه بعد معركة التحرر من استعمار الحاضر، انخرط المثقفون في التحرر من استعمار الماضي. لكنّ الماضي لا يجب أن يكون خصمًا لأحد. بل هو جملة من مصادر أنفسنا القديمة علينا الاحتراس في التزوّد الروحي أو اللغوي أو الميتافيزيقي منها. كانت مشاريع الوقت الضائع: ففي غياب مغامرات كونية للعقل، وهي تتمّ دومًا في الحاضر، تنخرط الثقافات في معارك ذاكرة وعمليات تأبين واسعة لجثة الماضي في وعيها العميق، ولكن من دون أيّ قدرة حقيقية على الحداد. على كل حال، كانت بعض قراءات التراث ضربًا من تملّق الذات في وقت عصيب حيث لم يكن المثقف قادرًا على التفلسف بالمعنى الدقيق للمفهوم، أي إقامة الأسئلة الكونية حول كينونته في العالم. كان تحويل التفكير الفلسفي إلى قراءات تراث خطأ تاريخيًّا جسيمًا، أوهمنا بأنّه يمكننا أن نتفلسف بشكل محلّي. والحال أنّ الفلسفة كونية أو لا تكون.
أين تقف من الماضي/التراث؟ هل أنت مع القطيعة حتى نتخلص من “هوية ماضوية تقيدنا”؟
ما يقلقنا فعلاً اليوم هو المستقبل وليس الماضي. والتركيز على العلاقة مع الماضي/ التراث هو مشكلة تأويلية خاصة بجيل لم يعد الآن قادرًا على تحمّل أعباء السؤال الفلسفي الحالي، نعني السؤال الكبير عن طبيعة العلاقة بين الهوية والحرية. وهو سؤال ما فتئ يُطرح منذ ثمانينات القرن الماضي في جميع الثقافات القادرة على الكونية. إنّ أسماء “فوكو وريكور وتايلور ورورتي ودريدا وجوديث بتلر.. الخ”. كلّها تشير إلى أسئلة حارقة حول هوية الشخص البشري وجنسه ونمط انتمائه إلى نفسه، ولكن في ضوء تقنيات السلطة أو السيادة أو الهيمنة التي تشكّلت في نطاقها. ليس هناك قطيعة مع الماضي في أيّ ثقافة من الثقافات الكبيرة. بل فقط تنشيطات وتأويلات وحفريات وتفكيكات واختراعات جديدة لمصادر أنفسنا بحسب إرادة الحياة التي تحرّك كل نوع اجتماعي في كل مجتمع. والإسلام ليس “هوية ماضوية تقيّدنا”، بل هو جملة من مصادر النفس يمكننا ومن حقّنا أن نعيد العمل الإبداعي عليها بحسب ما تدعونا إلى ذلك قيمة الحرية التي نمتلكها. وفي الواقع لا توجد قيود هووية إلاّ في أذهان العاجزين عن التفكير بأنفسهم.
وإذا قطعنا مع الماضي، من سيعشق لغة الضاد؟ ومن سيحفظ المعلّقات؟ ومن سيعرف أبا جهل؟ ومن سينصت للقرآن؟ ومن سيحبّ محمّدًا الإنسان؟ ومن سيدافع عن عائشة؟ ومن سيتشوّق إلى مكّة؟ ومن سيعتذر للحلاج؟ ومن ستمتعه خمريات أبي نواس، أو زهديات أبي العتاهية؟ ومن سيزور المعري في محبسيه؟ ومن سينتصر لمحنة ابن رشد؟ ومن سيذكر الأيوبي؟ ومن سيحكي ألف ليلة وليلة مرة أخرى؟ ومن سيفهم ابن عربي؟ …هذه ليست قطعًا متحفية متنافرة بل مساهمتنا في التأريخ الأخلاقي للنوع البشري، وعلامات على طريق آخر إلى أنفسنا لم نستعمله إلى حدّ الآن، من فرط ضجيج المتعصّبين وصراخهم. لن تقبلنا الإنسانية ونحن نجلس إليها بأيدٍ فارغة من الذاكرة.
كيف يمكن أن تساهم الفلسفة في النهوض، حتى نتحرر من حراس الهوية والذاكرة؟
علينا أوّلاً أن نقبل بوجود الفلسفة باعتبارها شريكًا تاريخيًّا وروحيًّا كبيرًا لثقافة العقل في مجتمعاتنا. ومتى صار شبابنا يتفلسف من دون أيّ خجل أخلاقي أو عقدي، فإنّه يمكن للفلسفة عندئذ أن تكون قد ساهمت في النهوض بفكرة الإنسان في ضمائرنا. أمّا “التحرر من سلطة حرّاس الهوية والذاكرة” فهو قضية وقت لا غير. إنّ قيمة الحرية تنمو بشكل لا يُصدّق، وكلّ المجتمعات الآن تكتشف فجأة أنّ فئة الشباب لديها قد تخطَّت عتبة الطاعة الحمقاء للمؤسسات الرمزية التقليدية بطريقة مثيرة ولامعة. على المفكّرين أن يتخلّوا عن أطماع الريادة على أجيال جديدة لا تؤمن بهم، ولا ينتمون إلى عالمهم الذي تبرّوا عليه.
إلى حدّ الآن تحوّل التفكير إلى صيد محموم للثورة، لكنّ الثورة لم تقع في أيّ فخّ مفهومي جيّد؛ أي قادر على اختراع وعود كبيرة للذين ثاروا. لكنّ المثقف ما بعد الهووي لا يقود، إنّه لم يعد نخبة، بل يرافق الشعوب نحو مصيرها الجديد، وهو “جديد” في معنى أنّه لا يقبل أيّ وصفة جاهزة عن المستقبل. وبهذا المعنى فالفلسفة لا “تحرّر” بالضرورة، فهي لا تنحصر في مهمّة “التنوير” إلاّ عرضًا. الفلسفة يمكن أن تخلق جيلاً جديدًا من الأحرار، وهذا يتطلّب تمارين مريرة ومؤلمة ومزعجة في تدبير الذاكرة، وفي تدبير الهوية. وذلك يعني استعدادًا راسخًا للانتماء الحرّ إلى مصادر أنفسنا، من دون المرور بوصاية أحد. ومتى كان التفكير الحرّ لا يسيء إلى أحد.



الارشيف

المتواجدون الآن